أخشى ما أخشاه أن يكتفي العالم العربي بالحديث عن الإصلاح دون أن يمارسه، وان ينتهز البعض فرصة محاولة فرضه من الخارج لمصادرة وقمع أي محاولة للإصلاح تصدر من الداخل، بزعم أنها (مشبوهة). وتلك كارثة مضاعفة، أولا لأنها تحول الإصلاح إلى حلم غير قابل للتحقيق، وثانياً لان الدنيا حولنا تتحرك بسرعة حتى سبقنا من كانوا في مثل حالنا أو دونه، وصرنا مهددين بالبقاء وحدنا خارج التاريخ. (1) تستفز المرء وتملؤه بالإحباط تلك الطنطنة التي أصبحت تلوك مفردات الإصلاح في مختلف عواصم العرب، حتى يبدو وكأن تلك العواصم دخلت سباقاً في عقد مؤتمرات الديمقراطية وحقوق الإنسان وتمكين المرأة، مماثلاً للسباق المشهود بينها حول عقد مهرجانات التسوق والسياحة والأغاني. وإذا جاز لي أن أقارن فقد أجد في المهرجانات الأخيرة ضجيجاً لا يخلو من طحن، على الأقل فيما يتعلق بالرواج الذي يحدثه التسوق، في حين أن المؤتمرات الأولى بمثابة ضجيج بلا طحن. مع ذلك فإنني اعترف بأن ذلك لم يكن حافزي الوحيد للتطرق إلى الموضوع، لان هناك حافزاً آخر كان له عندي وقع الغيظ والحسد. ذلك أنني في الآونة الأخيرة وقعت على تقارير عدة تحدثت عن القفزات الاقتصادية والعلمية الكبيرة التي حققتها الهند خلال السنوات الأخيرة. وكان ما نشرته خلال الأسبوعين الماضيين مجلة "نيوزويك" حول الموضوع، وما كتبه توماس فريدمان في "نيويورك تايمز"، وسلامة احمد سلامة في "الأهرام" من احدث التقارير والتحليلات التي أثارت انتباهي في هذا الصدد. لقد قدر لجيلنا أن يكون شاهداً على مجتمعات رأيناها قرى فقيرة وأشفقنا على أهلها قبل عقدين أو ثلاثة، ثم عرفناها بلاداً مزدهرة، مليئة بالحيوية ومفعمة بالأمل، حتى صرنا نحن إلى جوارها من يستحق الشفقة والرثاء. وهو ما ينطبق على بلاد مثل ماليزيا وإندونيسيا وكوريا الجنوبية والصين وسنغافورة وتايوان. (لا تسأل عن اليابان)، لكني ازعم أن تجربة كل هؤلاء في كفة، وتجربة الهند في كفة أخرى ولماذا؟ لان الصورة النمطية التي استقرت في أذهاننا عن الهند أنها بلد مكدود يكتظ بالسكان، اجتمعت فيه اعظم الكوارث والبلايا. من الفقر والمجاعات والتخلف إلى الأوبئة والفساد والتطرف، وليس له من فضيلة سوى التاريخ العريق والديمقراطية الراسخة. وقد أدهشني أن بلداً مثقلاً بكل تلك الهموم أقام احتفالاً بمناسبة بلوغ عدد سكانه مليار نسمة، معتبراً الطاقات البشرية رصيداً أو ثروة، وقد نجح في تصديرها إلى الخارج. حتى بلغت جملة التحويلات السنوية للهنود العاملين بمنطقة الخليج 14 مليار دولار. ليس ذلك فحسب، وإنما نجحت الهند في أن تحقق لنفسها اكتفاء ذاتياً في المحاصيل الزراعية الأساسية مثل القمح والذرة والأرز، في حين أن أقطارا زراعية أخرى لم تبلغ عشر معشارها من السكان، ما برحت تؤنب وتقرع بسبب الزيادة السكانية، وفشلت في أن توفر لشعوبها تلك المحاصيل. واستغربت كيف أن ذلك البلد المعقد المليء بعوامل الفقر والأمية والاضطراب، استطاع أن يفرز طبقة متوسطة متعلمة قوية، تراوحت بين 300 و 400 مليون نسمة، اصبحوا يشكلون العمود الفقري للمجتمع وقاطرة النهوض والتقدم فيه. وبجهود هؤلاء أصبحت الهند دولة نووية، ووصل معدل النمو الاقتصادي فيها إلى ما بين 5 و 7%، وارتفعت صادراتها السنوية للولايات المتحدة إلى 10 مليارات دولار. أما المفاجأة الكبيرة التي رفعت عندي وتيرة الغيظ والحسد، فهي أن ذلك البلد الذي خاض أربعة حروب ضد باكستان والصين، وتعددت فيه جماعات ومنظمات الإرهاب والتطرف ودعوات الانفصال التي عانت منها البلاد الكثير خلال نصف القرن الفائت، حتى قتلت ثلاثة من قادتها من المهاتما غاندي إلى انديرا غاندي وابنها راجيف، هذا البلد الذي ما زالت تعشش فيها بؤر التطرف والإرهاب حتى الآن، لم تعلن فيه الطوارئ مرة وما خضع للأحكام العرفية منذ الاستقلال. (2) في مقابل هذه الصورة، أضع بين يديك دون تعليق طائفة من أخبار العالم العربي الذي ترفع في فضائه رايات الإصلاح والتحديث. قبل أسابيع قليلة قدم إلى المحاكمة العسكرية نفر من الناشطين المدافعين عن الديمقراطية في إحدى الدول المشرقية بتهمة الانضمام إلى تنظيم غير شرعي اسمه "المجتمع المدني". وقد حاول أحد المحامين ان يشرح لهيئة المحكمة أن المجتمع المدني ليس تنظيماً غير شرعي، وإنما هي فكرة أو دعوة تتردد في مختلف أنحاء العالم، لإحياء دور المجتمعات وإشراكها في صياغة مصيرها من خلال المؤسسات والمنظمات الأهلية. ولكن الضابط رئيس المحكمة قاطعه قائلاً أن تلك ثرثرة مثقفين تحاول أن تتستر على عملية إثارة الفوضى وإشاعة الفتنة في المجتمع. وما فعله هؤلاء لا يمكن تبريره، وهو جريمة يعاقب عليها القانون. وكان الرجل محقاً في الشق الأخير من كلامه، لان البلد المعني خاضع لقانون الطوارئ منذ 41 عاماً! في بلد عربي آخر عولجت مسألة المجتمع المدني على نحو آخر. فبعد أن خضعت السلطة للاحتكار طيلة ثلاثة عقود، حدث التحول الذي طرأ على الأجواء العامة، حيث هبت الرياح التي حملت معها شعارات الحرية والتحديث وغير ذلك. ولضمان الاستمرار كان لا بد من المواءمة والميل مع الريح، فتغيرت اللافتات المرفوعة ومعها لغة الخطاب وانعكس ذلك على المواقف التي انقلبت مؤشراتها بمعدل 180 درجة. وإذ حدث ذلك فيما يخص السلطة، فان موقع المجتمع المدني ظل غائباً. عندئذ تقرر تأميم النشاط الأهلي بطريقة بسيطة. فقد تولى قسم من الجماعة مباشرة السلطة، وانصرف نفر من أعضائها إلى قيادة العمل الأهلي، وكتب واحد من الأخيرين مقالاً خاطب القراء فيه قائلاً: نحن المجتمع المدني نريد كذا وكذا.. (!) هذه حكاية ثالثة وقعت في الأسبوع الماضي. ففي أحد الأقطار سيئة السمعة، على الأقل في مجالي الحريات وحقوق الإنسان، تطوع المنافقون في اتحاد الصحفيين وقرروا إهداء الرجل الأول "الريشة الذهبية"، تقديراً لدوره في تكريس حرية الصحافة (المكممة والخاضعة للرقابة)، مما كان له وقع الصدمة في الدوائر المدافعة عن الحريات. فما كان من الاتحاد الدولي للصحفيين إلا أن قرر تعليق عضوية اتحاد الدولة المذكورة حتى إشعار آخر. لدي حكاية رابعة طازجة نسبياً. في إحدى الدول المغاربية فتح باب الترشيح للانتخابات الرئاسية، التي أريد لها أن تكون تجديداً للوضع القائم، ولكن "الإخراج الديمقراطي" اقتضى إتاحة الفرصة لمشاركة اكثر من مرشح. ولكي يتحقق المراد لجأت الأجهزة المعنية إلى حيلة بسيطة يمكن تلخيصها على النحو التالي: وجدوا أن القانون يشترط في المرشح أن يحصل على 75 ألف توقيع من مواطنين يؤيدونه. ولإبعاد المنافسين الأقوياء فان البلديات التي تتلقى التوقيعات أشاعت بين الناس أن الذين يوقعون لصالح غير المرغوب فيهم ترسل يومياً إلى أجهزة الأمن. ورغم أن هذه الحملة خوفت كثيرين، إلا أن أقوى المنافسين نجح في الحصول على اكثر من 90 ألف توقيع، مما أثار قلق الجهات المعنية، فماذا حدث؟ - قامت أجهزة الأمن ذات ليل باقتحام الغرفة المخصصة لإيداع استمارات التوقيع، التي كانت مغلقة بالشمع، واستولت في هدوء على ألوف الاستمارات المؤيدة له. وحين جاء دور الفرز والتدقيق لتحديد مواقع المرشحين، وجدت اللجنة المختصة أن بعض المتقدمين لم يستوفوا شرط ال 75 ألف توقيع. وبطبيعة الحال، فقد كان أقوى المنافسين على رأس هؤلاء. ومن ثم جرى استبعاده لتتحقق النتيجة المطلوبة. وأعلن بعد ذلك أن الانتخابات ستجرى بمنتهى الحرية والشفافية. عندي حكايات أخرى كثيرة، بمعدل حكاية أو اكثر من كل بلد، لكني مضطر للتوقف لضيق المقام. وانهي هذه النقطة بحكاية أخيرة على سبيل الترويح من بلد خامس. فقد نشرت صحف القطر الشقيق انه مع هبوب رياح التحديث والعصرنة، بدأ البعض في تغيير أسمائهم للتكيف مع المرحلة الجديدة. فهذا مدغر اصبح عبد العزيز وعجل صار عبد الرحمن وزنعاف غير اسمه إلى بندر ومشوط صار "نواف" ومنوخ غيَّر اسمه إلى محمد. أما في المسميات النسائية فقد لحقها التحديث على النحو التالي: شينه تحولت إلى عبير وغبيشة إلى غادة، وهليلة إلى ليلى، وضامرة إلى سعيدة، وبنات إلى رغد وادنه إلى دانه. (3) لماذا يبدو الاستعصاء الديمقراطي وكأنه أحد سمات الواقع العربي؟ نوقش الموضوع في اجتماع أخير عقد ببيروت، للجنة الاستشارية لتقرير التنمية في العالم العربي، الذي تصدره الأمم المتحدة، وهو المخصص لتعزيز الحرية (يفترض صدوره هذا الصيف). وخلال المناقشة جرى الحديث موسعاً حول مظاهر وأسباب أزمة الديمقراطية في العالم العربي، التي من تجلياتها احتكار السلطة وغياب الحريات العامة وغير ذلك من الأمور التي يعرفها الجميع. في تشخيص الحالة دعت الأغلبية إلى ضرورة العناية إلى جانب رصد الأسباب الداخلية، بدور العوامل الخارجية التي اعتبرها أحد المتحدثين أهم معطل للديمقراطية في العالم العربي، وطالب آخر بتتبع العلاقة بين الاستعمار والاستبداد في المنطقة - وذلك عنصر مهم ازعم انه مغيب في كثير من الأدبيات التي تعالج الأوضاع السياسية في العالم العربي. وهو مهم لأنه ثابت من الناحية التاريخية، والتنبيه إليه هذه الأيام لا يقل أهمية لان قوى الهيمنة الغربية ذات الباع الطويل في مساندة الاستبداد هي ذاتها التي تتبنى الآن الدعوة إلى الإصلاح السياسي في المنطقة، وهي ذاتها التي يحاول البعض إقناعنا بأنها تحولت إلى جبهة تحرير العراق! اكرر أننا لا نريد أن نعفي الداخل من المسئولية، إلا أننا لا نريد أيضاً أن نغض الطرف أو نتستر على دور الخارج. فقد كانت قوى الهيمنة في القرن التاسع عشر هي التي تولت ضرب مشروع النهضة الذي تبناه محمد علي باشا، وهي التي أزعجها كثيراً بزوغ احتمال إقامة دولة عصرية قوية في مصر والشام، فأجبر الاسطولان البريطاني والنمساوي قوات محمد علي على الخروج من سوريا، كما حاصر الأسطول البريطاني الإسكندرية، لكي تضطره إلى قبول شروط معاهدة لندن عام 1840م، ومن ثم تقويض مشروعه التحديثي الذي بدأه في عام 1805، الأمر الذي انتهى بتقليص الجيش المصري إلى 18 ألف جندي، ضمن تراجعات أخرى شملت الصناعة والتجارة والتعليم. لا نستطيع أن ننسى أيضاً أن قوى الهيمنة هي التي اقتسمت فيما بينها العالم العربي في "سايكس بيكو" عام 1916، وهي التي فتحت الباب لاغتصاب فلسطين بإطلاقها وعد بلفور عام 1917، وهي التي صوتت لصالح إقامة دولة إسرائيل في عام 1948، وقد تحدث الأمريكي "مايلز كوبلاند" في كتابه "لعبة الأمم" عن الدور الأمريكي في انقلاب حسني الزعيم بسوريا عام 1949، وانقلاب عبد الكريم قاسم في العراق عام 1958، وهناك انقلابات أخرى حدثت في الستينيات لم تكن الأصابع الأمريكية بعيدة عنها. في الوقت ذاته فان ظهور النفط في العالم العربي أضاف سبباً جديداً لمضاعفة دور قوى الهيمنة في المنطقة، وهي التي أدركت أن من يسيطر على منابع النفط يسيطر على العالم الصناعي بأسره. وهو ما لفت الانتباه إليه الأستاذ محمد حسنين هيكل أثناء غزو العراق حين قال ان المعركة ليست ضد العراق، ولكنه ميدان لضرب النار في التنافس على المستقبل بين الولايات المتحدة وأوروبا. الخلاصة أن حجم المصالح الغربية في العالم العربي، المتمثل أساساً في النفط وإسرائيل، لا مثيل له في أي منطقة أخرى من العالم. ولذلك فان الأصابع الغربية ظلت حاضرة بقوة وراء الكثير من أزمات المنطقة وتراجعاتها، خصوصاً على صعيدي الديمقراطية والتنمية. وهو ما يدعونا إلى القول بان ما تحتاجه المنطقة حقاً لتحقيق الديمقراطية والتنمية أن ترفع قوى الهيمنة يدها عنها، لا أن تتبنى تلك اليد عملية الإصلاح على النحو الذي يلوح في الأفق الآن. (4) هل يتعلم العرب من أوروبا؟ السؤال طرحه باتريك سيل الكاتب البريطاني المتخصص في الشئون العربية في مقال أبدى فيه تشككه في إدراك العرب لحاجتهم إلى توحيد صفوفهم لمواجهة الأخطار الداخلية والخارجية التي تتهددهم. وخص بالذكر ثلاثة تحديات فورية في العراقوفلسطين ومشروع الشرق الأوسط الكبير. (الحياة اللندنية 5/3/2004). واقترح لمواجهة هذه التحديات أن يقتدي العرب بالدول الأوروبية في لملمة صفوفهم، باعتبار ذلك خياراً وحيداً أمامهم للنجاة من الغرق. فذكر أن لكل منظمة إنسانية قادة، وهناك أقران لهم يتبعونهم. وبدون القادة الذين يحددون المسار، فلن تتقدم السفينة في الاتجاه الصحيح. وفيما يتعلق بأوروبا فقد تم الاتفاق بين الدول الثلاث الكبرى، ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، على تولي مهمة القيادة، وهو ما قد لا يقابل بالارتياح من جانب الدول الأخرى. ورغم أن الدول الثلاث ليست متفقة في كل شيء إلا أن الأحداث وحدت فيما بينها، وهناك قائمة من المهام التي لا يمكن القيام بها، بدون اتفاق تلك الدول. خصوصاً بعد توسيع عضوية الاتحاد الأوروبي في أول شهر مايو المقبل، حيث سيرتفع عدد دول الاتحاد من 15 إلى 25 دولة. وهو إذ يذكر بأن التجانس بين الدول العربية افضل منه بكثير في الحالة الأوروبية، ويشدد على ضرورة القيام بعمل عربي مشترك لمواجهة التحديات التي تواجه الأمة، فانه تحدث عن تشكيل قيادة ثلاثية للعالم العربي تضم مصر والسعودية وسوريا "تكون بمثابة محور تنضم إليه بقية الدول، وتكون مهمته اتخاذ القرارات السياسية وتطبيق الإصلاحات". وأشار إلى انه في ظروف العجز العربي الراهن فان وجود تلك القيادة يكتسب أهمية خاصة. لكنه شكك في إمكانية تنفيذ الاقتراح "لان العرب غير مستعدين لاحتذاء النموذج الأوروبي". من جانبي أشاركه الشك في إمكانية تنفيذ الاقتراح لسبب أهم من الذي ذكره. ذلك أن العرب حتى إذا كانوا مستعدين للقبول بفكرة القيادة الثلاثية، فان الولايات المتحدة لن تسمح بها بسهولة، باعتبار أن التشتت والتشرذم العربيين هو اكثر ما يخدم مصالحها هي وإسرائيل. وأي مشتغل بالشأن السياسي يعرف جيداً أن ثمة إصراراً أمريكيا على عدم التعامل مع العرب كأمة واحدة. آية ذلك انه في المحادثات التي دارت حول القضية الفلسطينية جرى استبعاد الجامعة العربية، كما نقل الأمريكيون إلى العرب رسالة صريحة تقول انهم غير مستعدين لان يسمعوا كلاماً باسم الدول العربية، ولكن على كل دولة أن تتحدث عن نفسها فقط. ولن نذهب بعيداً، فقد رأينا أن الأمريكيين دخلوا إلى العراق وشكلوا مجلس الحكم فيه من باب التفتيت العرقي والمذهبي، ووجدنا في القانون الأساسي المعلن أن هوية العراق العربية تراجعت بصورة نسبية. كما لا تفوتك ملاحظة أن موضوع الهوية هذا تراجع في ثنايا مشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي كان لا بد أن تنزع عنه الهوية العربية والإسلامية، لكي تحتل إسرائيل موقعها في قلبه أن لم يكن في قيادته. أن الولايات المتحدة خصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفيتي لا يسعدها توحد أوروبا، وقد حاول وزير دفاعها في العام الماضي أن يشق صفها أثناء الإعداد لغزو العراق، فتحدث عن أوروبا القديمة وتلك الجديدة. وثمة تعارض مكتوم يظهر بين الحين والآخر بين مصالح الجانبين على الصعيد الاقتصادي بوجه أخص. ومع ذلك فإنها قد تحصل بعض الفوائد من أوروبا، على الأقل في الشق المتعلق بدور حلف الأطلنطي. ولئن حدث ذلك مع أوروبا فما بالك به مع العالم العربي، حيث تدرك واشنطون وتل أبيب أن أي تنسيق أو توحد في العالم العربي يضر بمصالحهما المباشرة. (5) هذا التحليل إذا صح فانه يطرح على الجميع سؤالاً كبيراً هو: لماذا يتعين علينا أن نسلَّم بأن الموقف الأمريكي هو الحاسم في تحديد المصير العربي؟ - ذلك أن مثل هذا التسليم هو من تجليات الهزيمة التي ينبغي أن ترفض وتقاوم بكل السبل. أن عالمنا العربي يواجه مأزقاً حاداً لا يحسد عليه. إذ هو "محشور" بين ضغوط أمريكية متزايدة من الخارج، والتفاف حول الديمقراطية وتخل عن أسباب العافية والمقاومة في الداخل. والمشكلة انه في سباق البقاء في مجرى التاريخ، لم يعد هناك وقت للمماحكة أو التسويف، كما انه لم يعد هناك خيار. وإذا جاز لي أن استعير ما قاله في هذا الصدد الرئيس اليمني علي عبد الله صالح، من أننا إذا لم نبادر إلى حلق رؤوسنا بأيدينا فإننا نسوغ للآخرين أن يتقدموا هم لكي يحلقوها. ومن جانبي أضيف أننا إذا حلقناها ونحن واقفون، فانهم لن يفعلوها معنا إلا ونحن منبطحون.