مصر.. القبض على «هاكر» اخترق مؤسسات وباع بياناتها !    «موديز» ترفع تصنيف السعودية إلى «Aa3» مع نظرة مستقبلية مستقرة    ترامب يرشح سكوت بيسنت لمنصب وزير الخزانة    حائل: دراسة مشاريع سياحية نوعية بمليار ريال    بريطانيا: نتنياهو سيواجه الاعتقال إذا دخل المملكة المتحدة    الاتحاد يتصدر ممتاز الطائرة .. والأهلي وصيفاً    "بتكوين" تصل إلى مستويات قياسية وتقترب من 100 ألف دولار    الأمر بالمعروف في عسير تفعِّل المصلى المتنقل بالواجهة البحرية    (هاتريك) هاري كين يقود بايرن ميونخ للفوز على أوجسبورج    النسخة ال 15 من جوائز "مينا إيفي" تحتفي بأبطال فعالية التسويق    القادسية يتغلّب على النصر بثنائية في دوري روشن للمحترفين    الأهلي يتغلّب على الفيحاء بهدف في دوري روشن للمحترفين    نيمار: فكرت بالاعتزال بعد إصابتي في الرباط الصليبي    وزير الصناعة والثروة المعدنية في لقاء بهيئة الصحفيين السعوديين بمكة    مدرب فيرونا يطالب لاعبيه ببذل قصارى جهدهم للفوز على إنترميلان    القبض على (4) مخالفين في عسير لتهريبهم (80) كجم "قات"    وفد طلابي من جامعة الملك خالد يزور جمعية الأمل للإعاقة السمعية    قبضة الخليج تبحث عن زعامة القارة الآسيوية    أمير المنطقة الشرقية يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    بمشاركة 25 دولة و 500 حرفي.. افتتاح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض غدا    بحضور وزير الثقافة.. «روائع الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو    أوكرانيا تطلب أنظمة حديثة للدفاع الجوي    مدرب الفيحاء يشتكي من حكم مباراة الأهلي    رحلة ألف عام: متحف عالم التمور يعيد إحياء تاريخ النخيل في التراث العربي    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    أمانة الشرقية تقيم ملتقى تعزيز الامتثال والشراكة بين القطاع الحكومي والخاص    «طرد مشبوه» يثير الفزع في أحد أكبر مطارات بريطانيا    فيتنامي أسلم «عن بُعد» وأصبح ضيفاً على المليك لأداء العمرة    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    هل يعاقب الكونغرس الأمريكي «الجنائية الدولية»؟    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    "الجمارك" في منفذ الحديثة تحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة "كبتاجون    الملافظ سعد والسعادة كرم    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    «السقوط المفاجئ»    حقن التنحيف ضارة أم نافعة.. الجواب لدى الأطباء؟    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    ترمب المنتصر الكبير    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    فعل لا رد فعل    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بدرية: مرضي حرمني أمومتي.. وأجمل لحظات حياتي
حين يحطم الألم والفقر أسرة
نشر في اليوم يوم 02 - 03 - 2004

3 ملايين مصاب وحامل لأمراض الدم الوراثية في المملكة.. 30 بالمائة من سكان المنطقة الشرقية مصابون أو حاملون لهذه الأمراض، وهي أعلى منطقة تقريباً على مستوى المملكة. حيث تذكر إحصائيات وزارة الصحة ان نسبة المصابين والحاملين لأمراض الدم الوراثية في كل من المنطقة الشرقية (735 ألف مصاب وحامل) والجنوبية (292 ألف مصاب وحامل) تصل إلى 30 في المائة، بينما تصل في كل من منطقتي مكة المكرمة إلى (360 ألف مصاب وحامل) والمدينة المنورة إلى 24 في المائة، وتحتل المنطقة الوسطى آخر القائمة ب 58 ألف مصاب وحامل. وترجح الإحصائيات وجود قرابة مليون ونصف المليون شخص حامل ومصاب في المناطق الأخرى.
وحسب إحصائيات أخرى أصدرتها الوزارة فإن كل يوم يشهد ولادة 12 مصاباً بالمرض، و154 حاملاً له، مما يعني ولادة 4248 طفلا مصابا سنوياً، و54516 حاملاً للمرض. فيما تقدر إحصائيات ما تنفقه الدولة كإعانات للمصابين بأمراض الدم الوراثية سنويا بأكثر من 600 مليون ريال، حيث تمنح وزارة العمل والشئون الاجتماعية مبلغ 3 آلاف ريال سنوياً لقرابة 200 ألف مصاب بأمراض الدم الوراثية، منها 184 مليون ريال لمواطنين بالشرقية، و90 مليوناً للغربية، و73 مليوناً للجنوبية، والوسطى 15 مليون ريال.
وإذا أضيف لهذا المبلغ تكلفة العلاج المقدم للمرضى، فإن الرقم قد يصل إلى مليارات الريالات. فيما قدرت وزارة الصحة تكلفة علاج مريض الثلاسيميا بقرابة 100 ألف ريال سنوياً، وفي المقابل لا تزيد تكلفة الفحص الطبي قبل الزواج على 10 ريالات للشخص الواحد. وهو الفحص الذي أصبح إلزامياً ابتداءً من مطلع الأسبوع الماضي، بقرار صدر من مجلس الوزراء. حيث يشترط مأذونو الأنكحة إحضار شهادة الفحص شرطاً لإكمال عقد الزواج. ولن يحول وجود إصابة لدى أحد أو كلا الطرفين (الزوج أو الزوجة) دون إجراء عقد النكاح، حيث سيكتفي مأذون الأنكحة بتوجيه النصح والإرشاد، بعد الاطلاع على نتيجة الفحص. وكانت نتائج استبيان أجراه مشروع مكافحة أمراض الدم الوراثية بالأحساء قبل أشهر أظهر ان 97 بالمائة يؤيدون الإلزامية.
(اليوم) تفتح ملف أمراض الدم الوراثية.. هذا الوحش الذي ينهش أجساد ضحاياه، وهم كثر في المنطقة الشرقية، خصوصاً في محافظتي الأحساء والقطيف.. تستمع إلى صرخات الألم التي يصدرونها من على أسرة المرض، ترصد الآثار الاجتماعية والنفسية والاقتصادية لهذا المرض الخطير.. وعلى عدة حلقات:
لم تقض بدرية عبدالله ليلة زفافها في غرفة نومها مع عريسها أمير حسين، بل قضتها في المستشفى.. المستشفى، الذي أمضت على أسرته البيضاء أكثر من نصف عمرها، حيث توشك الآن على دخول عامها الثلاثين.
حين تدخل بدرية المستشفى بسبب آلام الثلاسيميا وآلام تضخم الطحال، ونوبات السكر فأنها تترك 4 أطفال (أصغرهم عمره 10 أعوام، وأكبرهن في عامها الخامس عشر) في البيت المتهالك، الذي يقع شرق حي الفاضلية في مدينة الهفوف بمحافظة الأحساء، في ظل ظروف أقل ما توصف بأنها مأساوية.. وهذه المأساوية تشمل كل الجوانب: الصحية، المالية، وحتى النفسية، فمرض الزوجة الدائم قاد الزوج أمير (34 عاماً) إلى تدهور حالته النفسية، مما دفعه إلى مراجعة مستشفى الأمراض النفسية.
في زاوية الغرفة المظلمة هناك طفل تكسر الدم الفولي محمد (10 سنوات)، وصرخات وحسرات حاملة الثلاسيما إيمان (11 سنة)، وساجدة (15 عاماً)، التي تحمل أيضاً صفة المرض، وأنات مريض السكر وحامل صفة المرض ناصر (13 سنة).
فيما يجلس الأب مطأطئ الرأس، محزون القلب، موجوع الروح، شارد الذهن، يفكر في زوجته، التي ترقد على السرير الأبيض في مستشفى الملك فهد بالهفوف، وقد نحلت عظامها بسبب الثلاسيميا الحادة، التي سكنتها منذ صغرها، وأبت ان تغادرها، مما جعلها نزيلة المستشفى طوال حياتها.
الأم تتحدث
بعد يوم من زيارة الأب والأولاد في منزلهم، لرصد جوانب هذه الحكاية المأسوية، تمكنت من مهاتفة الأم بدرية المنومة في المستشفى، حين علمت أنني الصحفية التي كانت في منزلها وبين أطفالها قبل يومين، سألتني عن حالهم وأخبارهم و....، لم تكمل أسئلتها المتلهفة عن أولادها، الذين لم ترهم أو تسمع صوتهم منذ يومين، فالهاتف في المنزل مفصول، ولا سيارة تنقلهم إليها في المستشفى، بل بدأت في الشكوى من سوء الأحوال في المستشفى، خصوصاً معاملة الممرضات الأجنبيات، وعدم اكتراث بعض الأطباء.. تقول: يبقى المريض يتألم ويتوجع لساعتين أو ثلاث، ولا يأبهون به.
خلال الأيام الماضية تكررت اتصالاتي ببدرية لاستكمال رصد جوانب القصة، وبعكس ما كنت أتوقع ظهرت ليّ متفائلة، بنفسية هادئة، بعكس زوجها، مؤمنة جداً بقضاء الله وقدره، صابرة، محتسبة للأجر.. ربما بعد كل هذه السنوات تأقلمت مع مرضها/ مأساتها، ربما لم ترد ان يشعر أطفالها بالألم، فأخفته في صدرها.. ولكن هي رحمة الله بها، فلم تشأ رحمته الواسعة ان يجمع عليها مصيبتين (المرض الجسدي والنفسي).
الحمل يضاعف الألم
وعن بداية معاناتها مع الثلاسيميا تقول: منذ ان كنت طفلة صغيرة، وقبل ان أتزوج ونوبات تكسر الدم تنتابني بين آونة وأخرى، وبعد ان تزوجت وكبرت ازدادت آلام التكسر، وتضاعفت علي بشدة أثناء فترة حملي الأول والثاني، وكنت أقضي أغلب وقتي في المستشفى لنقل الدم، فلقد كانت نسبة الهيموجلويين في دمي لا تتجاوز 5. حيث كان ينقل لي الدم بشكل دائم، فخلال الشهر الواحد ينقل لي الدم بمعدل 12 مرة، وكانت تراودني مخاوف ان يكون الدم ملوثاً، كما كنت أجد أحياناً صعوبة في العثور على الدم، ففصيلتي نادرة (+B).
تغادر المستشفى.. لتعود
يتأوه الزوج أمير لحاله، وحال زوجته وأطفاله، الذين لا يرون أمهم إلا في أيام قليلة، بينما يفتقدونها معظم الأيام.. يقول: وضع زوجتي المصابة بمرض الثلاسيميا الحاد؛ مأساوي ومزر للغاية، فمعظم أيامها ولياليها تقضيها في المستشفى، وفي غالب الأحيان أخرجها من المستشفى عصرا وأعيدها إليه ليلا، فنوبات الثلاسيميا لا تتركها تفرح بمجالسة أطفالها ومداعبتهم، كباقي أمهات العالم، فما ان يفرحوا بقدومها للمنزل، حتى يكشر شبح الثلاسيميا عن أنيابه، ويهجم هجوما كاسحا، منتشلاً الأم من بين أطفالها، الذين لم يهنأوا بها بعد، فأتصل على الإسعاف، ليعود بها، من حيث أتت (المستشفى).
قطعوا الهاتف
ومؤخراً لم يعد أمير يتصل بالإسعاف، فلعدم تمكنه من سداد فاتورة الهاتف، تم فصل الخدمة عن منزله، فأصبح في موقف لا يحسد عليه، حيث أم أطفاله تصارع نوبات الثلاسيميا، بينما زوجها لا يملك سيارة تنقلها إلى المستشفى، لضعف حالته المادية، وتراكم الديون عليه، وعدم حصوله على عمل إلى الآن.. يقول: في مثل هذه الظروف اضطر إلى ان أتجول في الحارة، أطرق أبواب الجيران، لكي يمن علي أحدهم بنقل زوجتي إلى المكان الذي ألفته وألفها (المستشفى)، لتستسلم هناك لأكياس الدم، ووخزات الإبر، وآلام تضخم الطحال، ونوبات السكر, فارجع إلى البيت، ليقابلني أطفالي الأربعة وعلامات الحزن والانكسار مرسومة على وجوههم، بعد ان عرفوا أنهم سيحرمون مصدر الحنان (أمهم)، فيستسلمون لخيبتهم المعتادة، لوحدتهم وغربتهم، ويندبون حالهم المزري، بعيون مغرورقة بالدموع.
نفسية محطمة
ويضيف: مأساتي كبيرة مع هذا المرض العضال، لقد قضى على حياتنا، وحول سعادتنا إلى شقاء... فالبيت تعمه الفوضى من دون أم ناصر، ونشعر بنقص كبير، وحالتي النفسية متدهورة إلى ابعد حد، لدرجة أنني بدأت في مراجعة مستشفى الصحة النفسية..
وبعد نوبة ذهول ألمت به عاد ليستأنف حديثه بنبرة أسى: الفقر وضعف الحالة المادية.. عدم وجود العمل.. غياب الزوجة عن البيت، ومكوثها الدائم في المستشفى.. مسؤولية البيت والأطفال الأربعة.. نظرات اليتم المرتقب....
يسكت قليلا، تتحشرج روحه في حلقه ويحوقل.. يشرد بذهنه كالمعتاد طيلة الحوار معه.
رسوب دائم في المدرسة
صدمني الأب حين قال: غياب الأم المتكرر عن البيت تسبب في تدني مستوى الأولاد الدراسي، ومن ثم رسوبهم بشكل دائم.
رغم ذلك، ورغم أيضاً حداثة أعمارهم، إلا ان الأطفال الأربعة يملكون ثقافة صحية عالية، خصوصاً فيما يتعلق بأمراض الدم الوراثية، وأتضح لي ذلك من خلال الحديث العابر معهم.. وتفسر بدرية ذلك بقولها: أنا أخذهم معي إلى مركز أمراض الوراثية في مستشفى الملك فهد بالهفوف، وأطلب من الممرضات هناك ان يعطونني بعض الكتيبات والمطويات الخاصة بالثلاسيميا وفقر الدم المنجلي، وأعطيها لأولادي لكي يقرأوها، حتى أصبحوا خبراء (تقولها وهي تضحك) في هذه الأمراض.
هنا بدأت المعاناة
@ عدت لأسأل الزوج أمير: متى بدأت حكايتكما مع المرض؟
قال: ما زلت أتذكر تلك الليلة الوردية الجميلة في حياة كل شاب مقبل على حياة جديدة، تلك الليلة تحولت إلى شقاء ومأساة... تقف بي الذاكرة في تلك الليلة المشؤومة، والمفترض ان تكون الليلة السعيدة، بل والأسعد في حياتي.... زوجتي (العروس) البالغة من العمر 15 عاماً، في حين كان عمري أنا المعرس (يقولها ضاحكاً) 17 عاماً، في تلك الليلة لم ترحم الثلاسيميا فرحتي!.. ولم يشفع لي أنني (معرس)، للتو فرغ من حفل زفافه، حيث هجم المرض عليها، ليحطم فرحتنا، ويقضي على أحلامنا، ويحيل سعادتنا إلى تعاسة وشقاء، ويطيح بعروسي أرضا، لتتضرج بين آهات وأنات، ولكمات وضربات في الركب والظهر والرأس والبطن، فلم تتمالك العروس نفسها، سوى بهتافات مبحوحة تطلب المساعدة، وبين هذه الفقرات الدرامية، التي كان بطلها الثلاسيميا؛ وبيدين مرتعشتين، وأنامل مرتجفة، توسطها خاتم الزواج، رفعت سماعة الهاتف، لأضرب (997)، وما هي إلا لحظات إلا وسيارة الإسعاف تقف على باب بيت (المعاريس)، لتنتشل العروس من بين أحلام موءودة، وآمال مفقودة وفرحة مؤجلة إلى يومنا هذا، وبعد إنجاب 4 أطفال..
الزواج من أخرى
وباستخفاف يضحك ثم يضيف: لا اعتقد أننا سنفرح يوما ما، مادام شبح الثلاسيميا يطاردنا في زوجتي وأم أطفالي.. ولم يسلم المجلس من ثرثرة النساء المعهودة، وبكلمات أشبه ما تكون بالنابية أو المازحة.
@ وبجرأة سألته: ألم تراودك فكرة الزواج مرة أخرى من امرأة سليمة؟
ضحك ونظر إلى أطفاله المحيطين به، وأجاب: والله أتمنى ذلك، وفكرت في هذا الأمر مرارا.. ولكن من أين لفقير عاطل عن العمل ان يتزوج؟
يصمت أبو ناصر صمتا مطبقا.. يدير نظره لأطفاله الأربعة القابعين حوله، يطرح علينا أمنياته التي تعد صغيرة: أتمنى ان انجب أولاد اكثر من أولادي الأربعة هؤلاء.. كي يعوضوني في المستقبل خيرا.. فهم أملي المرجو ولكن..
الحمل ممنوع
يعاود الصمت مرة أخرى. استدرجه إلى الكلام، استحثثته على الحديث..
أجاب بألم: الطبيب منع زوجتي من الحمل والإنجاب، لأن ذلك لا يناسبها.. لا بل ان الحمل خطر على حياتها، فهي تتعدب في ولادتها.. وتلاقي الويل، وتحتاج لعمليات نقل دم، وهي في غير أوقات الحمل تستهلك كميات كبيرة من الدم، الذي ينقل لها.
@ سألته: من أين تحصل على الدم؟ وهل تلاقي صعوبة في الحصول عليه؟
أجاب: أحيانا من المستشفى، وأحيانا من أصدقائي، الذين توافق فصيلة دمهم فصيلتها، والحمد لله، فهم لا يقصرون في ذلك.
حلم الإنجاب
الغريب أنه رغم كل ما قاسته بدرية من آلام خلال حملها وولادتها، فهي تتمنى أيضاً لو أنجبت المزيد، تقول: أريد أولادا آخرين ليكونوا ذخراً لي ولوالدهم، ولعل الله يرحمنا بهم من المرض والفقر.
غير ان تعليمات الطبيب صارمة في منع بدرية من مجرد التفكير في الإنجاب، تقول: في حملي الرابع، وهو الأخير، أصبت بتليث في الكلى، فأكد عليّ الطبيب ان الحمل سيضرني، وسيكون خطراً على صحتي.
لا تتحمل العملية
يحمد أبو ناصر الله على انه سليم معافى من هذا المرض.. يقول: وإلا كنت أورثته لأطفالي.. فأطفالي حاملين للمرض، وليسوا مصابين، ومنهم من هو سليم منه، سوى من نوبات التكسر الفولي، والسكري.
تعم حالة الصمت شيئا من الوقت، ليقطع صوت أبو ناصر الصمت، وهو يقول: حاولنا إجراء عملية لها (والكلام عن الأم الثلاسيمية)، لنزع الطحال المتضخم، فنصحنا الأطباء بعدم إجراء العملية.. لما فيها من خطورة على حياتها، فوضعها الصحي لا يتحمل مثل هذه العملية.. فتظل تتألم جراء ذلك.. وتتمنى لو أجريت لها العملية، لعلها تتحسن نوعا ما، أو تخف الآلام، ولكن كما قال الأطباء فان العملية لا تناسبها، وخطرة على حياتها.
مرض.. وفقر
لفت انتباهي تردد الفقر على لسانه، وهو الشاب المعافى القوي الجسد.. سألته:
@ لماذا لا تعمل؟
أجاب: كنت اعمل سائقا في أحد المستوصفات الخاصة، لفترة من الزمن، حتى استغنوا عن خدماتي، وتركوني، وبحثت عن عمل آخر، وكلما ذهبت إلى مكان طالبوني بالشهادة، وأنا لا أملك سوى شهادة الثالث الابتدائي (الزوجة لديها شهادة الثاني متوسط)، ولا اعرف القراءة والكتابة... ولكنني أبيع واشتري الجوالات، وأحياناً أعمل في إصلاح السيارات. وأحيانا أخرى اكتفي بما تقدمه ليّ الجمعية الخيرية. وان كانت مساعداتهم بسيطة ولا تكاد تكفي ربع متطلبات الأولاد، الأساسية طبعاً، وليس الكمالية أو الترفيهية.
الأبنة.. الأم البديلة
ساجدة، التي لم تتجاوز الخمسة عشر ربيعاً، هي من تقوم بدور الأم في حالة غياب الأم الحقيقة عن البيت، التفت إلى الأم البديلة، وبلطف مشوب بالوجل سألتها:
@ كيف ترين مسؤولية المنزل؟
بخجل وبنبرة استحياء أجابت: الحياة صعبة من دون أمي، والمنزل جحيم من دونها، وأنا أحاول مساعدة والدي في مسؤولية البيت. فتارة أعد الطعام، طبعاً طعام بسيط، على قدر حالنا، وتارة يطبخ والدي، ولكن يصعب علي حاله.
الطواف على الجيران
سألتها عما تختزنه ذاكرتها من مواقف مؤلمة مع أمها الثلاسيمية. وبصوت متحشرج قالت: اذكر في يوم من الأيام، وحين عدت من المدرسة، وما ان دخلت البيت، حتى سمعت صرخات أمي، التي كانت تقطع القلب، فلقد زارتها نوبات الثلاسيميا المعتادة، وبسرعة جنونية هرعت إلى جهاز الهاتف لاتصل بالإسعاف، والفاجعة أنني فوجئت بان الهاتف مفصول، وبين بكائي ودموعي قصدت بيت الجيران، لنتصل بالإسعاف، ليأتي وينتشلها، فيما كان أخوتي الصغار غارقين في دموعهم على حال أمي.
لم أملك القدرة على الاستماع لباقي وصف ساجدة للموقف، بسبب الحالة النفسية التي داهمتني، بعد ان سمعت ما سبق، عدت إلى المسجل، لأكتب نص كلامها، تقول: أخرجوها على الحمالة الطبية من البيت، ممددة أشبه ما تكون بميتة. بعد ساعات أتى والدي إلى المنزل، حيث كان يسترزق في السوق، سأل عنها، قلنا له: نقلوها إلى بيتها الثاني (المستشفى).
المستشفى "أكشخ"
التفت إلى محمد الابن الصغير، المصاب بفقر الدم المنجلي (تكسر فولي)، وبمداعبة سألته:
@ حمودي هل اشتقت للماما؟
هز رأسه، وبابتسامة طفولية شفافة أجاب: نعم.
@ استدرجته: متى آخر مرة شفت ماما؟
ضحك وعض على شفتيه: منذ يومين.
@ هل حدثتها؟ ماذا قالت لك؟
ببراءة أجاب: لا تتكلم
ببراءة الأطفال، وشفافية سألني الطفل محمد ذو العشرة أعوام: هل ستشفى أمي من مرضها؟ متى ستأتي أمنا إلى البيت؟ إلى متى ستبقى أمي تحب المستشفى اكثر منا؟
يضحك شقيقه ناصر، وهو يجيب أخاه ببساطة وعفوية: ربما المستشفى أكشخ من بيتنا المهدم.. عندهم سرير فخم، مو فراش بيتنا (الخلاقين)! عشان كذا أمنا ما تبي تجي البيت، وتفضل المستشفى..!!
هذا هو الحل
قبل ان أختتم قصة أسرة أمير وبدرية، أنقل أمنية حملتني إياها بدرية بأسى، فهي تتمنى لو تمكن الأطباء من الوصول إلى حل وعلاج لنوبات تكسر الدم وآلام الثلاسيميا التي تجتاح بدنها وبدن بقية المرضى، وتنخر عظامهم لسنوات وسنوات. ولكنها تعلم ان هذا الداء العضال ليس له علاج إلا أكياس الدم والمغذي والإبر.. ورغم ذلك فهي ترى ان الحل الوحيد هو التوقف عن زواج الأقارب والمرضى ببعضهم البعض.. تضيف: بعد ان تجرعت طوال هذه السنوات من الألم والمرض، من قلبي أقول لكل من يفكر في الإقدام على الزواج ان يذهب ومن سيختارها لتشاركه المستقبل ليجريا الفحص الطبي، لن يكلفهم الكثير من الوقت، كما أنه مجاني، وهو بإذن الله سيحمي فلذات أكبادهم من هذه الأمراض القاتلة واللعينة.
هل يرضيكم حالي
وتوجه أم ناصر سؤالا لكل شاب أو شابة يفكر في الزواج، بدون إجراء الفحص الطبي: هل تريدون لأبنائكم حينما يكبرون ان يصبحوا مثلي، أترك أطفالي الأربعة في البيت، بينما أتنوم أنا في المستشفى، محرومة من رعاية أولادي، تداهمني الهواجس والخيالات المزعجة بخصوص ولدي ناصر المصاب بالسكري، والذي لا أعلم الآن هل هو الآن في البيت مع أخوته، أو منوم في المستشفى، بعد ان أصيب بنوبة سكر.
قبل ان أغلق سماعة الهاتف خاطبتني أم ناصر بقولها: قولي لهم (تقصد المقبلين على الزواج) لقد انقلبت كل أفراحي إلى أحزان، شهر العسل قضيته في المستشفى، أيام النفاس قضيتها في المستشفى، حرمني الألم ان أفرح بزواجي وإنجابي لأولادي.
أمير وطفلاه محمد وناصر
بدرية تقضي شبابها وحياتها على السرير الأبيض


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.