خلال سنة التفرغ العلمي التي حصلت عليها من جامعتي العزيزة قمت برحلة علمية إلى بلد إسلامي خليط في شعبه عجيب في قدراته ذلك أن ماليزيا أصبحت محط الأنظار لكثير من الدول في العالم وهي تمضي قدماً في تطورها وتقدمها لتصبح في مصاف الدول المتقدمة بناء على الرؤية التي وضعتها لنفسها بحلول عام 2020م. وهي تمثل اليوم رقم 18 من حيث حجم الاقتصاد على مستوى العالم وصنفت من أكبر ثلاثين دولة مصدرة للتقنية بالعالم والتجربة الماليزية في الحقيقة يمكن لها أن تصبح أنموذجاً لدول نامية كثيرة بسبب العوامل الثلاثة التالية: أولاً : إن ماليزيا ذات تاريخ عريق في المنتجات خصوصاً في المطاط والتن اللذين يمثلان 75% من حجم الصادرات الماليزية عند استقلال البلد في عام 1957م وكان التصدير يدر آنذاك حوالي نصف الدخل الوطني وكانت الصادرات الصناعية اللانفطية لا تمثل إلا حوالي 9% من الناتج المحلي في ذلك الوقت . ثانياً : التحول التدريجي في السياسات الحكومية ، فخلال السنوات العشر الأولى بعد الاستقلال كان الدعم الحكومي في المقام الأول على الصناعات الإحلالية للمواد المستوردة ثم بعد ذلك انتقل الدعم الحكومي إلى سياسات أكثر انفتاحاً لاستقطاب الصناعات القائمة على أساس التصدير وذلك ابتداء من عام 1971م وقد كانت النتيجة أن أصبح المطاط والتن لا يمثلان أكثر من 2% من مداخيل الصادرات في عام 1996م بينما 98% من مداخيل الصادرات يأتي من المواد المصنعة ، المنتجات البترولية ، وزيت النخيل . وهذه نقلة نوعية في عملية تنويع مصادر الدخل الوطني وتجربة فريدة جديرة بالدراسة والتحليل لكثير من الدول ومنها بلدنا الحبيب . ثالثاً : تمتعت ماليزيا خلال الثلاثين عاماً الماضية بمعدل سنوي حوالي 5ر7% مما جعلها من الدول القلائل في العالم التي تمتعت بنسب نمو عالية ولفترات طويلة من الزمن مما يعزز ما قلته آنفاً من أنها تجربة تستحق الدراسة ونموذجاً يحتذى لكثير من دول العالم. إن ماليزيا التي مرت بعدة تغييرات هيكلية في عمل الحكومة التي أثبتت مع مرور الزمن الأثر الإيجابي في تنويع الصادرات الوطنية والتركيز على الصناعات ذات القيمة المضافة للاقتصاد كان محور سياستها الاقتصادي يدور حول تحفيز الصادرات وتشجيع الاستثمار الأجنبي والمحلي. لقد استطاعت ماليزيا بتنوع صادراتها وتناقص اعتمادها على مداخيل بيع المواد الأولية كالمطاط والتن أن تنجو بنفسها (ماعدا عام 1986م) من الآثار السلبية لانهيار أسعار بيع المواد الأولية وكذلك التقلبات الحادة في أسعار الصرف وما أشبه الليلة بالبارحة. ونحن هنا في بلدنا الحبيب نمر بهذه التقلبات الحادة سواء في أسعار النفط أو أسعار صرف الدولار أمام العملات الأخرى لذلك فإنه حري بنا أن تقوم جميع مؤسساتنا الأكاديمية منها والتنفيذية بدراسة هذه التجربة والنظر في كيفية الاستفادة منها لتطوير وتنويع اقتصادنا الوطني. القوانين والاستثمار لقد كان للقوانين والاجراءات التي اتخذتها الحكومة الماليزية ومنها قانون الاستثمار الأجنبي أكبر الأثر في تشجيع الاستثمار الأجنبي والمحلي لإقامة المصانع المخصصة للتصدير مع وجود السياسات التحفيزية لترويج الصادرات أدى هذا كله إلى التحول التدريجي والمتسارع نحو التصدير والابتعاد عن الاعتماد شبه الكلي على بيع المواد الأولية وبالمقابل أدى هذا إلى الاعتماد على استيراد الآلات والمعدات ذات الصلة بمصانع التصدير ولذلك دائماً هناك علاقة مطردة بين حجم الصادرات الصناعية وحجم الاستيراد لتلك المواد والمعدات والتقنية الانتاجية للمصانع التصديرية. تطور الصناعة ويمكنني كباحث أن أقسم مراحل تطور الصناعة في ماليزيا التي انتقلت فيها ماليزيا من بلد رئيسي في تصدير المطاط والتن إلى بلد رئيسي في تصدير القفازات المطاطية والأجهزة الالكترونية والكهربائية إلى أربع مراحل في التصنيع وهي كالتالي : المرحلة الأولى : وكانت في الستينات إلى أوائل السبعينات من القرن الميلادي الماضي وتركزت السياسات على دعم الصناعات الإحلالية بدلاً من الاستيراد مثل صناعة الغذاء والشراب والبلاستيك والمواد الكيميائية . المرحلة الثانية : وكانت في السبعينات إلى أوائل الثمانينات من القرن الميلادي الماضي وتركزت السياسات على دعم الصناعات ذات التوجه التصديري كصناعة الالكترونيات والمنسوجات وغيرها . وكانت السياسات الحكومية قد وفرت جواً مناسباً وملائماً للاستثمار الأجنبي ووفرت بنية تحتية جيدة وعمالة محلية مدربة وبأسعار منافسة ومناطق صناعية حرة وحوافز ضريبية وتفضيلية وتُملك أجنبي مباشر لاي مصنع يصدر أكثر من 80% من إنتاجه خارج البلاد . وقد كانت أمريكاواليابان وسنغافوره وبريطانيا من أكثر الدول استثماراً في ماليزيا . المرحلة الثالثة : والتي كانت في عقد الثمانينات وأوائل التسعينات من القرن الميلادي الماضي التي تركزت السياسات الحكومية فيها على دعم الصناعات الثقيلة والمرتكزة على المعرفة والموارد المحلية كصناعة زيت النخيل والسيارات الوطنية والاسمنت والحديد. المرحلة الرابعة : والتي بدأت في منتصف التسعينات من القرن الماضي وإلى عام 2010 وتركزت السياسات الحكومية على دعم الصناعات ذات التقنية العالية كصناعة الأدوية والكيميائية والبتروكيميائية والصناعات التي تقدم خدمات مساندة لعملية التصنيع كالمعامل والمختبرات والتسويق والتوزيع والإمداد . ويكفي أن نعلم أن الاستثمارات في القطاع الصناعي في خلال الفترة ما بين 1998م وحتى فبراير من عام 2003 بلغت 4000 مشروع استثماري بمبلغ قدره 124 بليون ريال سعودي منها 62% استثمارات أجنبية و38% محلية وطنية من القطاع الخاص .وقد وفرت هذه الاستثمارات أكثر من 400000 وظيفة. إن هذه الاستثمارات لم توجد فرصا وظيفية جديدة للعمالة المحلية وزيادة العملة الصعبة في احتياط البلاد فحسب بل قدمت رأس المال والتقنية والخبرات الإدارية والتسويقية لتعزيز مكانة الصادرات الماليزية بالعالم . ويكفينا أن نضرب هذا المثال على التطور الصناعي الهائل الذي حصل في ماليزيا فصناعة الأجهزة الالكترونية قبل ثلاثين عاماً كانت عبارة عن شركات لا يتجاوز عددها أصابع اليد والعمالة فيها لا تزيد على ستمائة عامل أما اليوم فأصبحت هذه الصناعة بها أكثر من تسعمائة منشأة يعمل بها أكثر من 335200 عامل وبحجم صادرات سنوي يزيد على 52 مليار دولار أمريكي . جذب الاسثمارات لذلك أستطيع أن أقول إن العوامل التالية كانت من الأسباب الرئيسية في نجاح ماليزيا الكبير لاستقطاب الاستثمارات الأجنبية بها وهي : أ)استقرار سياسي ب)اقتصاد يقوم على أساس السوق الحر ج)عمالة يافعة ومتعلمة ومتدربة واسعارها منافسة د)بنية تحتية متميزة ه)توجه حكومي صادق ومخلص لجعل البلد بيئة جذب للمستثمرين ويكفينا أن نعلم أن بماليزيا اليوم المقر الرئيس لأكثر من خمسة آلاف شركة أجنبية استقر بها المقام وتنوعت استثماراتها وأصبحت جزءاً من اقتصاد البلد. تشجيع الصادرات وأود في هذه المقالة أن استعرض مع إخواني وأخواتي القراء بعضاً من السياسات التي انتهجتها الحكومة الماليزية من أجل تشجيع وتنمية الصادرات خلال الثلاثين سنة الماضية لعل وعسى أن يطّلع عليها أهل الاختصاص في مجلس الشورى السعودي ووزارة التجارة والصناعة ومجلس الغرف السعودي وغيرها من الهيئات بهذا البلد العزيز والنظر في كيفية الاستفادة منها على واقعنا المحلي: 1 - قامت الحكومة الماليزية ممثلة في وزارة التجارة و الصناعة بتقديم العديد من التسهيلات الائتمانية والقروض الميسرة بكافة أشكالها وأنواعها خصوصاً للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة. 2 - استصدار سياسات مالية مناسبة هدفها إيجاد حزمة من الحوافز الضريبية والاعفاءات والحسومات وذلك لتنمية الصادرات وتتركز هذه الحوافز فيما يلي : - أ)إعفاءات ضريبية تصل إلى حد 25% من قيمة الصادرات المباعة للمصانع ذات التوجه التصديري. ب)علاوة تصدير تصل إلى 3% من قيمة الصادرات وذلك لصالح المصانع المحلية والأجنبية بماليزيا. ج)إسقاط المصاريف ذات الصلة بترويج الصادرات من حساب الضرائب وهذه المصاريف تشمل: الدعاية الخارجية ,العينات المجانية ,دراسات السوق من أجل التصدير , كلفة الخدمات الفنية بعد البيع ,علاقات عامة ذات صلة بالتصدير , المشاركة وحضور المعارض التجارية محلياً وعالمياً , مصاريف السفر لموظفي المنشأة من أجل التصدير , مصاريف الإقامة لموظفي المنشأة من أجل التصدير ,مصاريف مكاتب المبيعات الخارجية. د) توفير الضمانات على قروض التصدير خصوصاً للأسواق الجديدة والناشئة. ه ) إسقاط الضرائب المحلية والرسوم على البضائع المخصصة للتصدير 3 - سياسات هيكلية ملائمة تتلخص فيما يلي : أ)قيام هيئة متخصصة تعنى بترويج الصادرات الوطنية وذلك : من خلال توفير المعلومة عن البلد المستهدف ونشر التقارير الدورية والسنوية عن آخر المستجدات في عالم المال والتجارة التي تحوي المؤشرات الاقتصادية للدول المستهدفة بالتصدير وكذلك تقديم احصائيات عن التجارة البينية واحصائيات عن أكبر عشر دول تتعامل معها الدولة . كذلك تقوم الهيئة بمساعدة المصدرين الوطنيين خصوصاً المؤسسات الصغيرة والمتوسطة من خلال توفير كتيب إرشادي يوضح خطوة بخطوة ما الذي يجب عمله للقيام بعلمية التصدير ابتداء بالحصول على رخصة التصدير وعمل الدراسات الميدانية للدول المستهدفة وتقديم بيانات كافية عن المستوردين في تلك الدول ووضعهم المالي وتوفير الصيغ القانونية بين المصدر والمستورد وتوفير الاعتمادات البنكية وإرشادات حول كيفية تجنب مخاطر أسعار الصرف وكيفية ضمان استلام حقوقك المالية . كذلك توفير معلومات محدثة وبشكل دوري ومستمر عن أوضاع الدول التي تتعامل معها وآخر ما استجد من أنظمة وقوانين بتلك الدول . كذلك توفير صفحة متكاملة على شبكة المعلومات الالكترونية (الانترنت) حول منتجات البلد وكيفية الوصول إلى المستوردين بالإضافة إلى عمل نشرة دورية خاصة بالهيئة توزع على الأعضاء وحث المصدرين الوطنيين على الاشتراك فيها وذلك ليحصلوا على آخر المستجدات في عالم التصدير . ب ) إنشاء مناطق صناعية حرة في أماكن مناسبة ومحددة ( هناك اثنتا عشرة منطقة صناعية حرة في ماليزيا حالياً ) كذلك سمحت الحكومة بقيام مصانع مرخصة أخرى في ماليزيا خارج تلك المناطق الصناعية الحرة وتتمتع بنفس المزايا المعطاة في المناطق الحرة . ج ) قيام وزارة التجارة والصناعة الماليزية بتوعية المصدرين الماليزيين بالفرص التجارية الواعدة والقيام بدراسة الأسواق وكذلك تقديم المساعدة لرجال الأعمال الأجانب الراغبين في التواصل مع رجال الأعمال الماليزيين. و بالمناسبة أتمنى أن تقوم وزارة التجارة و الصناعة السعودية بدراسة الهيكل الاداري لمثيلتها الماليزية و نوعية الموظفين العاملين بها و السعي الحثيث لمحاكاتها فيما هو مناسب و ملائم حيث الحكمة تقتضي أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون الناجحون في أعمالهم. د ) قيام هيئة تنمية الصادرات بترتيب حضور المعارض والمنتديات الاقتصادية وإرسال الوفود التجارية. ه ) قيام الحكومة الماليزية بعقد الاتفاقيات الثنائية والمتعددة من أجل تسهيل دخول المنتجات الماليزية وكذلك وضع الضمانات على المعاملات التجارية من أجل حفظ حقوق المصدرين الماليزيين في تلك الدول . 4 - سياسات تشجيع الاستثمار الاجنبي المباشر قامت الحكومة بوضع قوانين استثمار أجنبي منافس حتى أصبح مستوى الاستثمار الأجنبي في البلد يمثل 65% من دخل الحكومة في عام 2001م. و عليه أناشد هيئة الاستثمار السعودي دراسة تلك القوانين و الاستفادة منها بقدر المستطاع. 5 - قيام الحكومة بالسعي الحثيث في ربط المصانع الصغيرة والمتوسطة الماليزية بالشركات والمصانع الأجنبية في المناطق الصناعية الحرة وذلك بهدف انعاش الاقتصاد المحلي ووضعت الحوافز والاعفاءات الضريبية المناسبة للطرفين . استمرار التحدي هذه نبذة موجزة عما قامت به ماليزيا في العقود الثلاثة الأخيرة والنتائج الإيجابية المذهلة لتلك السياسات والاجراءات ويبقى التحدي مستمراً لتلك الصناعات الماليزية الرائدة التي تتلخص في أن صناعة المنسوجات والمنتجات المرتبطة بالمطاط تمثل 30% من حجم الصادرات المصنعة و70% من إيرادات التصدير الماليزي بينما تنحصر بقية التصدير في المنتجات الكهربائية والالكترونية وهذا يعني أن أي تذبذب في الطلب على المنسوجات والمنتجات ذات الصلة بالمطاط قد يؤثر بشكل سلبي على وضعية الصادرات الماليزية، كذلك هناك تقوقع في وجهة الصادرات الماليزية للأسواق العالمية فحوالي 50% من الصادرات الماليزية يتجه نحو اليابانوأمريكا وسنغافورة والاتحاد الأوروبي وبالتالي أي انحسار في اقتصاديات تلك الدول قد يكون له انعكاسات سلبية على الاقتصاد المحلي . ولكن تبقى التجربة الماليزية رائدة وجديرة بالتحليل والتأمل وإنني أناشد المسؤولين على جميع الأصعدة في الاستفادة من تلك التجربة ومراجعة ما قمنا به حتى الآن والنظر في كيفية الخروج من مأزق الاعتماد شبه الكلي على صادراتنا النفطية ومحاكاة ما قام به الاخوة في ماليزيا. *أستاذ الإدارة والتخطيط المشارك بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن أستاذ الإدارة والتخطيط المشارك بجامعة الفهد ارتفاع الصادرات بسبب سياسة التشجيع الصناعات الصغيرة والمتوسطة وجدت مايدفعها للامام