يقول سعيد مهران بطل رواية نجيب محفوظ (اللص والكلاب): "ما أجمل ان ينصحنا الاغنياء بالفقر!"، وهذا بالضبط ما أقصده من استعادة ما في معنى التعبير التراثي (خضراء الدمن) من خصب واسع الابعاد. والذي ينسبه صاحب لسان العرب الى الرسول صلى الله عليه وسلم. تعجب سعيد مهران يطل علينا من اكثر من نافذة حين نتأمل ولو تأملا سريعا في التاريخ وفي الواقع معا: ففي التاريخ لا نقف فقط على قول من قال: وقد ينبت المرعى على دمن الثرى وتبقى حزازات النفوس كما هيا بل نقف كذلك على عشرات المواقف المليئة بالحق الذي يراد به باطل، وآلاف المواقف الكاذبة التي تستهدف غير ما تعلنه من اهداف. حتى رحنا لا نستغرب قول (الطائر المحكي): ومن عرف الايام معرفتي بها وبالناس روى رمحه غير راحم اما الواقع الذي نعيش فيه ونقاسي يوميا بشاعته الضاربة فهو أشد هولا من كل ما في التاريخ: في التاريخ لم يسخر العلم لإذلال الانسان، وها هو يسخر الآن. وفي التاريخ لم تنصب سيول الدعاية المبرمجة على الفقراء لدفعهم الى بيع حتى جلودهم، وها هي تنصب الان. وفي التاريخ لم تنهب شعوب بكاملها ارضها وانسانيتها كما تنهب الآن. (إن لم تكن معي فأنت ضدي). هذا الشعار الذي رفعته كالسيف المرهف على رقاب جميع الامم اكبر واعتى دولة تدعي حماية الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان، هذا الشعار لم يرفعه احد بصورة شاملة في التاريخ كله. وها هو الآن يشهر على الرقاب كما تشتهي القوة ويشاء الطغيان وتخطط الشركات. ما الذي يرفع هذا البؤس عن الارض؟ ترفعه الارادة الجماعية، ولكن أين الإرادة الجماعية (وكل مدينة فيها أمير المؤمنين ومنبره). (ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم) تلك مقولة نسيناها.