هذه الأحداث والحروب والمحن التي اجتاحت عالمنا العربي والإسلامي كشفت أحوال هذه الدنيا الصاخبة ، وكشفت عالمها المتقلب ، فقد أزالت الستار عن أشخاصه وهيئاته ومنظماته وحكوماته ، وعرته على حقيقته ، ونشرت الخبث والمراوغة على أرصفته ، وأسقطت المصطلحات البراقة التي يلمع نفسه فيها ، ويخفي سطوته واستبداده خلفها مثل ( الإنسانية ، والكرامة ، والحرية ، والعدالة الدولية ، والمساواة ، وحقوق الإنسان ، وحق العيش ، وحق المصير ) حيث داسوا على بعضها ، وغصوا بالبعض الآخر . ودللت هذه الأحداث على أن هذه الدنيا تدار كما في العصور السابقة من القتل ، والتشريد ، والنهب ، والسلب ، والظلم ، والطغيان ، وأنه لا يزال القوي يأكل الضعيف ، ويهيمن علية ، وأن ما يسمى بالعالم المتحضر ما هو إلا غابة كبيرة نعيش فيها تحت سيطرة الأسود ، وغدر الذئاب ، ومراوغة الثعالب ، وتمثيل القرود ، وجبن الخراف ، ومازال العالم يتمثل قول الشاعر زهير بن أبي سلمى : ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه *** يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم . وقد كانت الألاعيب والمراوغات في السابق مكشوفة لكل ذي لب نبيه ، وواضحة لكل سياسي حاذق ، إلا أن هناك من تغلب عليه العواطف فيحسن الظن ، ويتعامل بالظاهر . وينكر المؤامرات ، ويتريث بالحكم ، أما هذه الأيام وبعد هذه الأحداث فلم يبق إنسان لديه في رأسه ما يفكر به إلا تبصر بالأمور ، وتبين له الطعن في الظهور ، وبدأ يقرأ ما بين السطور . فقد كشفت هذه الأحداث عن معادن الأشخاص ، و بينت صدق العلماء ، وأبطلت مراوغات الحكومات ، وأشارت إلى خبث المؤسسات الحقوقية ، ودللت على انحياز الهيئات الدولية ، وأسقطت زيف الإعلام ، ونفاق بعض الإعلاميين . فقد كنا في السابق نجزم ، ونراهن على أن العالم المتحضر بهيئاته ، ومؤسساته ، وحكوماته لن يسمح بالإبادة الجماعية للشعوب ، وكنا نظنه لن يرضى بقتل العزل من المدنيين ، حتى رأيناه يغض الطرف عن إبادة السوريين بالطائرات ، ورأيناه يسكت عن قتل الأطفال بشكل جماعي ، ورأيناه لا يتألم لذبح الرضع بالسكاكين ، ورأيناه لا يهتز لهدم البيوت على المدنيين . رأيناه وهو يقدم مصالحه ، وأولوياته على دماء الأطفال والنساء والمدنيين . وكنا نظن أن هذا العالم المتحضر لن يسمح باستخدام السلاح المحرم مهما كلف الأمر ، حتى رأيناه يتفرج على أطفال غزة وجلودهم تنسلخ عن أجسادهم بفعل الفسفور الأبيض المحرم دولياً ، بل رأيناه يستخدم هذا السلاح بنفسه على المدنيين من أهل الفلوجة بالعراق . كنا ننتظر من العالم المتحضر ، ومن المؤسسات الحقوقية ، والمنظمات الدولية أن تنتصر للمظلوم وتحقق العدالة التي يتغنون بها ، لكننا رأينا الحضارة الزائفة تنتصر للظالم الإسرائيلي ، وتمده بالسلاح ، وتبرر جرائمه ، رأينا العدالة الدولية وهي تتسلط على المسلمين المعتدلين وتلاحقهم في شتى بقاع العالم وتصفهم بالإرهاب لتجد ذريعة لتتبعهم ، وتجفيفهم ، والقضاء عليهم . رأينا الحكومات المتحضرة وهي تساعد على اغتصاب أراضي المسلمين في فلسطين ، وتقتلهم في أفغانستان ، وتلاحقهم في الباكستان ، وتجوعهم في الصومال ، وتقسمهم ، وتنهبهم في العراق ، وها هي الآن تتأهب لقتل المسلمين وتشريدهم في مالي . رأينا هذه الهيئات الحقوقية وهي تلتزم الصمت عن إبادة المسلمين ، وتشريدهم في بورما ، ورأيناها وهي تصاب بالصمم عن ما يحدث في سوريا ، ورأيناها وهي تتغافل عن تعذيب المسلمين وشنقهم وإهدار كرامتهم في الأحواز . فلا أحد بعد اليوم يقول لي هناك هيئة لحقوق الإنسان ، ولا أحد يتذرع بالمحكمة الدولية ، ولا ينفع الصراخ والتهديد بالشكوى لمجلس الأمن ، ولا قيمة ولا عبرة بمعاهدة جنيف ، ولا مزية ولا هيبة لهيئة الأمم . فقد تبين بعد الأحداث أن هذه الهيئات العالمية ، والمؤسسات الأممية ، والمعاهدات الدولية ما هي إلا أدوات بيد أسود الغابة ، وما هي إلا سوط يساق به الجبناء ، واتضح أنها لعبة سياسية يضحكون بها على الضعفاء ، ويرعبون بها الجبناء من أجل استنزافهم ، واستعبادهم ، والهيمنة عليهم . ولو نطقت هذه الأحداث لقالت بصوت عال أن لا وجود إلا للأقوى ، ولا حضور إلا للردع ، ولا سماع إلا للقبضة ، ولا هيبة إلا للسلاح ، ولا قيمة إلا للاستعداد . ومن لا يملك الردع ولا القوة ، وليس لديه الإرادة ولا العزيمة ، فهو غنيمة لهيئة الأمم ، ومحل لتجاربها ، ومضرب لسوطها ، وإذا أراد شيئاً فليستعطف عند بابها ، وليتذلل لأساطينها ، وليخضع لأربابها ، وهذا ما نراه مع الأسف واضحاً جلياً في السياسات العربية ، والإسلامية ، فقادتهم وسياسييهم لا يجيدون إلا التظلم إلى هيئة الأمم ، والتهديد بالشكوى إليها ، فلا قوة صنعوا ، ولا كرامة حفظوا . وليبكِ العرب والمسلمون أنفسهم كالنساء ، وليبيعوا بلدانهم كالحمقى ، وليساعدوا أعداءهم لأنهم جبناء ، فقد أضاعوا فلسطين ، وزهدوا بأفغانستان ، وتبرؤوا من العراق ، وفرطوا في سوريا ، وتخلوا عن جنوب السودان ، , وأهملوا الصومال . وها هو اليمن يصارع ، ولبنان يتمزق ، وباكستان تسرق ، والأحواز تشنق وتجفف ، ومالي تغتال وتهدد . ولا أحد يظن أن السياسيين العرب لا يعلمون ذلك ، ولا يفهمون اللعبة ؟ ... بل هم يعلمون ، ويعرفون ، وهم خائفون ، ومرعوبون لأنهم يفهمون قصة ( أكلت يوم أكل الثور الأبيض ) ، ولكنهم لا يملكون الأدوات التي تجعل لصوتهم قيمة ، ولا يوجد لديهم رصيد يستمدون منه العزيمة ، ولا يستندون لرادع يخلق لهم هيبة ، فهم منفذون وحسب ، وإن نابهم نائب ، أو خطرهم خاطر ، هبوا لهيئة الأمم يبكون ، ولمجلس الأمن يشكون ، فيكون الحل كما يريد الحاكمون ، لا ما يريده هؤلاء المستضعفون . صالح علي الضحيان مستشار تربوي