كان الإنسان منذ أن وطئت قدماه أديم هذه الأرض، وسيظل حتى يرث الله الأرض ومن عليها في بحث لاهث مضن عن حلم سرابي يسمى أنشودة (السعادة). هذا الحلم (الرائع جدا) و(الغامض جدا جدا) الذي ما انفك يداعب أحلام الجميع،وتتغنى به قصائد الشعراء، وتبشر به اطروحات الفلاسفة على شتى مشارب توجهاتهم الفكرية والعقائدية. مما يطرح سؤالا مهما فحواه عن ماهية هذه السعادة أو إن شئتم ما هذا الحلم (الهلامي) القريب البعيد الذي رآه أفلاطون في (مدينته الفاضلة)، ورآه كارل ماركس في (الشيوعية)، تماما كما بشر به ادم سميث في (الراسمالية) أما فلاسفة المسلمين كالفارابي، وابن أبي الربيع.. وغيرهما فقد رأوه في تطبيق تعاليم الاسلام منهاجا وطريقة حياة. ... يؤسفني أن أقرر ابتداء أن لا اجابة (علمية) شافية عندي واحسبها عند غيري لهذا السؤال (المعضلة) لأكثر من سبب سأحاول جاهدا التطرق لبعضها وليعذرني قرائي الكرام ان تجاوزت البعض الآخر لظروف المساحة المخصصة لهذه المقالة ليس إلا. ... أولى هذه الأسباب هو أننا نحاول سبر مفهوم (غامض جدا) شانه كشأن الكثير من المفاهيم الانسانية الأخرى التي أصبح من الصعب ان لم يكن يستحيل ان نقدم تعريفا محددا له يحظى باتفاق وموافقة كل بني البشر. ... أما ثانيها فهو أننا ومن خلال هذا السؤال ندخل دهاليز النفق (الفلسفي) بكل ما يحويه من اشكاليات (ما يجب أن يكون) في مواجهة ما هو كائن. على أن ذلك لا يمنع من الاستدراك قولا بان السعادة (كحدث) هي قضية (نسبية) بمعنى ان ما يعتبر (حدثا سعيدا) للبعض قد لا يحمل بالضرورة المضمون نفسه بالنسبة لآخرين. فلو افترضنا جدلا أن أمرا ما قد حدث لمجموعة من الأشخاص، فانه قد يمثل لواحد منهم (قمة) السعادة، وقد يعني لآخر حدثا (عاديا) وقد يكون لثالث أمرا (تعيسا) وهكذا فلله في خلقه شئون. أما السؤال الآخر ذو الصلة بهذا الموضوع فهو يتعلق (بالوسيلة) بمعنى كيف تتحقق السعادة؟ هنا نجد اننا قد دخلنا مرة أخرى في نفق (عدم الاتفاق) لاسيما ان هذه الوسائل تتراوح بين ما هو (مادي) وما هو (معنوي) (فكل شخص منا يبحث عما ينقصه). ... فالمعتل صحيا يري أنها في (الصحة). ... والمعدم قد يراها في (المال). ... وهذا الباحث عن الشهرة يراها في المنصب والجاه. ... وبعض يراها في القناعة. ... والكريم يرى قمتها في التخفيف من معاناة محتاج. ... والمؤمن يراها في أداء ما فرضه الله عليه. ... وهناك من يرى أنها تحوي كل ما سبق. ... ان وسائل تحقيق السعادة يمكن لها أن تكون وسائل (مادية) كالمال والصحة والجاه، كما يمكن لها أن تكون (معنوية) كالقناعة، والرضا.. وغيرها. ... وهنا لابد لنا وان نقف متسائلين: ... ترى هل يبحث ذلك الطامح عن السعادة (المادية) عن وسيلة أخرى بعد أن يمن الله عليه بالوصول إلى مبتغاه؟ بمعنى آخر، إذا من الله على المعتل بالصحة والعافية؟، وانعم على المعدم بالمال،ونال ذلك الباحث عن الشهرة المنصب والجاه اللذين كان يرنو اليهما هل ينتهي الى هنا طموح السعادة لديه؟ أغلب الظن والله أعلم ان الاجابة هي بالايجاب أخذا في الاعتبار جملة من الحقائق المهمة والتي يأتي في مقدمتها ما أودعته قدرة الخالق جل وعلا في النفس البشرية من غرائز. ... ولكن ماذا عن ذلك الذي منح نعمة القناعة والرض وعاش حياته راضيا بما قسمه الله له؟ دعوني اقفز هنا فوق آراء بعض (المتفيهقين) والذين يفلسفون هذا السلوك بأنه سلوك (مجرد من الطموح) لأقرر بأن هذا النمط هو بلاشك اسعد الجميع. لقد حذر الفيلسوف الفرنسي (مارثان هيدجر) في كتابه الشهير (الفلسفة في مواجهة العلم) والذي نقلته الى العربية الدكتورة (فاطمة الحيوش) من طغيان الجانب المادي على الجانب الروحي في حياة الانسان لما لذلك من آثار سيئة على السلوك الانساني، من هنا فإن توظيف الثقافة للتركيز على الجانب المادي طبقا لرأي هيدجر هو توظيف يصب في الاتجاه المعاكس لمصلحة الانسان. إن تعدد الآمال والتطلعات الانسانية هو أمر مفهوم جدا على أن الويل ثم الويل لمن جعل الجانب المادي هو أقصى طموحات السعادة لديه، فعندها سيجد نفسه كلاهث وراء سراب. رزقنا الله وإياكم نعمتي القناعة والرضا. وعلى الحب نلتقي.