في اعقاب الاعلان عن اهم مؤسسة دولية لم يستطع المجتمع الدولي انشاءها منذ خمسين عاماً - على حد تعبير ال ( فايننشال تايمز ) - في لاهاي .. المدينة الهولندية بعد تصديق 74 دولة على اتفاقيتها .. بادرت الولاياتالمتحدة ( إلى عرقلة انطلاقتها لأنها لاترغب السماح لأي امريكي مهما بلغت فظاعة ما اقترف ان يمثل امام محكمة جنائية دولية في أي مكان كان ) يدخل في اختصاصها جرائم الحرب .. وجرائم ضد الانسانية .. وجرائم الابادة .. التي ( تتميز بأنها تحاكم من يرتكب هذه الجرائم .. أو يأمر بها .. أو يشرف على تنفيذها وتتعقبه بصفة شخصية دون الاعتداد بأي حصانات أو حماية قانونية له ) !! لذلك هددت بالغاء جميع عمليات قوات حفظ السلام التابعة للامم المتحدة !! . في ضوء الموقف الامريكي تساءلت مجلة ECONOMIST لماذا لا تُمنح المحكمة الجنائية الدولية الفرصة لاثبات جدواها ؟ واضافت : ( ان النسبة المتوقعة لعدد الامريكيين العاملين تحت مظلة الأممالمتحدة الذين قد يتعرضون للمثول امام المحكمة الدولية هي تقريباً صفر في المئة )!! الموقف الامريكي رغم ما اثاره من استهجان على كافة المستويات السياسية والفكرية اثبت ان العدالة وحقوق الإنسان اصبحتا شيئاً من الماضي .. وانها بموقفها هذا وقبله عدم التوقيع على الاتفاقية تثبت بما لا يدع مجالاً للشك انها العدو الأول للعدالة .. والانسانية وهو ما عبرت عنه ال ( جارديان ) البريطانية بقولها : ( من الصعب تبرير رفض الولاياتالمتحدة قيام محكمة الجنايات الدولية ) !! وامام الموقف المتشدد الذي هدد باستخدام حق النقض ( الفيتو ) للتجديد لقوات حفظ السلام في البوسنة رضخ مجلس الأمن الدولي للرغبة الامريكية فوافق بالاجماع على اعفاء الامريكيين لمدة عام من محاكمتهم امام أول محكمة جنايات دولية . وفي اتجاه آخر تحركت الولاياتالمتحدة بسرعة لحماية جنرالاتها .. وجنودها .. ومسؤوليها وهي تعد العدة لغزو العراق .. تحركت بسرعة لتمارس ضغوطاً على بعض الدول ومن بينها دول البلقان للتوقيع على معاهدات ثنائية تمنع تسليم المجرمين حتى بلغ عدد الدول الموقعة على هذا النوع من ( المعاهدات ) حتى الآن 37 دولة .. اما ترغيباً من خلال التأكيد على الدول الراغبة في الانضمام في حلف الاطلسي بأن ذلك لن يتحقق الا بتوقيع المعاهدة .. واما ترهيباً بالتلويح بحجب المساعدات الاقتصادية والعسكرية عن الدول التي ترفض التوقيع !! والغريب .. العجيب ان دول البلقان التي تحمي الولاياتالمتحدة وجرائمها ومجازرها وتقلص دور المحكمة الجنائية الدولية كانت احد الاسباب الاساسية لقيام هذه المحكمة بعد التطهير العرقي والمذابح الجماعية التي تعرضت لها هذه الدول!! اسرائيل التي تخشى بدورها تعرض كبار مسؤوليها وقادتها للملاحقة والمحاكمة بتهم ارتكاب جرائم ضد الانسانية والتي تدينها المادة الثامنة من قانون المحكمة الذي تم اقراره عام 1998م التي تنص على : ( ان نقل اقسام من مواطني البلد إلى منطقة محتلة يعتبر جريمة حرب ) مادة تدين اسرائيل بسبب سياستها الاستيطانية التي هيأت للآلاف من الاسرائيليين الاستيطان في مناطق فلسطينية في الضفة الغربية .. وقطاع غزة منذ عام 1967م .. كما ان القانونيين يرون ان اسرائيل مسؤولة عما يجري في الاراضي الفلسطينية من تهجير .. وجرائم حرب .. وانتهاكات حقوق الانسان والقتل المتعمد لاشخاص تحت الاشتباه بانهم ارهابيون لهذا فان بالامكان ملاحقتها قانونياً من قبل المحكمة الدولية ولكن في اطار ضيق لانه يتوجب ان تكون الجرائم المعنية (منظمة ومنتشرة)!! المعروف ان اتفاقية تأسيس المحكمة الجنائية وطبيعة مهامها تعود إلى شهر يوليو 1998م عندما انعقد مؤتمر دولي في روما ووقع عليها مندوبو 139 دولة ودخلت حيز التنفيذ في شهر ابريل الماضي 2002 بعد ان صدقت عليها 66 دولة كان من بينها دول الاتحاد الاوروبي ماعدا اليونان .. وكندا .. والاردن وبعض الدول الافريقية .. وباشرت مهامها اعتباراً من مطلع العام الحالي 2003م .. كأول محكمة يجري تأسيسها لهذا الغرض وهي ثمرة حوالي نصف قرن من الجدل القانوني وزهاء العقد من المفاوضات الرسمية لتنظر - مستقلة عن الاممالمتحدة - في الجرائم التي ارتكبت اعتباراً من الاول من شهر يوليو 2003م .. ولن تعمل بأثر رجعي !! .. ويرى احد القانونيين الذي رحب بانطلاق المحكمة انها ( سوف تسد الفجوة في نظام العدالة الدولية مع وجود محكمة العدل الدولية التي تختص بالفصل في النزاعات بين الدول ) !! وهكذا وبالرغم من الحقيقة المخزية .. والمحزنة لمحكمة الجنايات الدولية قوبلت مباشرتها لصلاحيتها الدولية ( المحدودة ) بابتهاج كبير .. واعتبر ( الحدث ) انتصاراً للانسانية .. و(مخرجاً للبشرية من مآس وجرائم ترتكب في حق الانسانية .. وهذا يعني ان شعوب فلسطين وافغانستان .. والعراق الذين يتعرضون لأبشع الجرائم .. والابادة الجماعية الاسرائيلية والامريكية ليسوا بشراً ولاينتمون الى الانسانية !!) واذا كانت المحكمة الجنائية الدولية هي الأولى من نوعها وفقاً لنظامها الأساسي .. والدول التي صادقت عليها الا انها ليست الأولى في محاكمة مجرمي الحرب فقد كانت هناك محكمة عسكرية دولية لمحاكمة مجرمي الحرب على الساحة الاوروبية عام 1945م واخرى لمحاكمة مجرمي الحرب في الشرق الأقصى عام 1946م .. وثالثة باسم المحكمة الجنائية الدولية لراوندا عام 1994م .. وقد سبق هذه المحاكم تشكيل لجان تحقيق مؤقتة للتثبت من حدوث انتهاكات لحقوق الانسان من عدمها ، منها اللجنة الخاصة بتحديد مسؤوليات مبتدئي الحرب وتنفيذ العقوبات لعام 1919م .. لجنة الأممالمتحدة لجرائم الحرب لعام 1943 .. لجنة الشرق الاقصى لعام 1946م .. لجنة الخبراء المعنية بيوغسلافيا عام 1992م .. لجنة الخبراء المعنية براوندا عام 1994م . الغريب ان منظمات حقوق الانسان وفي طليعتها منظمة العفو الدولية صمتت صمت القبور عند صدور القرار الأول لمجلس الأمن باعفاء الجنود الامريكيين في كل انحاء العالم من الوقوف امام محكمة جرائم الحرب الدولية عام 2002م .. ولم يطرأ جديد على موقف هذه المنظمات عندما صدر قرار التجديد في 13 يونيو الماضي لعام جديد .. أي استمرار تعليق صلاحيات المحكمة الدولية بالنسبة للولايات المتحدة واسرائيل والدول التي لم تصدق على معاهدة انشاء المحكمة !! مع ان هذه المنظمات لو كانت تعني حقاً وصدقاً ما تروج من ادعاءات وترفع من شعارات حماية حقوق الانسان دون ازدواجية او الكيل بمكيالين .. هذه المنظمات كان بامكانها ان تدعو الى انشاء هيئة قضائية دولية محايدة للنظر في القضايا التي تتعلق بمرتكبي جرائم ضد الانسانية ومذابح الابادة الجماعية كما يحدث من قوات الاحتلال الامريكية في العراق وعصابات صهيون في الاراضي العربية المحتلة .. وان تمارس هذه المنظمات ضغوطها (المعتادة ) من اجل تفعيل صادق وجاد وحازم لهذه الهيئة واكتساب صفة الالزام والنفاذ وهي حينذاك تستطيع ان تحقق ما عجزت عنه الاممالمتحدة ومنظماتها المختلفة !! ان منظمات حقوق الانسان التي تحقق النجاح اذا ارادت تستطيع ان تحقق هذا الانجاز الذي يمتد تأثيره الى آفاق اكثر سعة في خدمة الانسانية !! لقد آن الاوان لأن يكون هناك رادع لمن يسترخص ارواح ملايين البشر الذين يقتلون ويشردون وتسلب حقوقهم في جرائم تزداد شراسة وعدواناً كلما اتجهنا شرقاً وجنوباً !! .. آن الاوان لكي يتحقق ( أمل ) كوفي عنان الامين العام للامم المتحدة في ولايته الثانية والاخيرة عندما قال في حفل التوقيع على اتفاقية انشاء المحكمة : ( نأمل ان نرى قريباً اليوم الذي لا يفلت فيه حاكم ولا دولة ولا منظمة ولا جيش في أي مكان تنتهك فيه حقوق الانسان ) !!