لعل من الامور الحيوية التي يجب التطرق االيه بمناسبة زيارة سمو ولي العهد الى روسيا هي امر يتعلق بطبيعة العلاقات الخليجية - الروسية في الوقت الراهن، بحكم ان المملكة تمثل عضوا فاعلا ومؤثرا في مجلس منظومة التعاون الخليجي، فمن كان متابعا للاوضاع الخليجية - الروسية منذ اكثر من عشر سنوات فلن يعجزه ان يكتشف ان تلك الاوضاع كانت تمثل مرحلة جمود واضحة، ولا يمكن وصفها اليوم بطبيعة العلاقات التي تجمع بين موسكو ودول مجلس التعاون الاخذة في النهوض والنمو، فخلال السنوات القليلة الماضية شهدت تلك العلاقات تقاربا جوهريا وملحوظا يتضح من خلال الرؤى والمواقف السياسية القريبة الى التجانس.. وكذلك شهدت تكثيفا واضحا لعلاقات التعاون الاقتصادي بين الجانبين، بما دفعها الى آفاق شمولية واسعة ورحبة في مختلف مجالات التعاون لاسيما ما له علاقة مباشرة بتوسيع وتنشيط التبادلات التجارية وتشجيع الاستثمارات المشتركة.. ومن خلال الزيارات المتبادلة الرسمية وغير الرسمية بين الجانبين بما انعكست اثارها الايجابية على توقيع سلسلة من الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية كان ابرزها انعقاد اعمال المنتدى الاقتصادي الاول لرجال الاعمال الروس ونظرائهم من دول مجلس التعاون الخليجية في مدينة جدة. المنتدى الاقتصادي لقد نتج عن هذا المنتدى زيارة العمل الرسمية الاولى من نوعها للامين العام لمجلس التعاون الخليجي لموسكو في اخريات العام المنصرم اضافة الى اجتماعات اللجان الحكومية المشتركة من الجانبين وكذلك تبادل الوفود التجارية والاقتصادية بينهما لعل اخرها زيارة الوفد التجاري الروسي لسلطنة عمان ودولة الامارات العربية المتحدة في اوائل العام الجاري، اضافة الى فعاليات اخرى على درب مزيد من التعاون والتقارب بين الجانبين، فمن شأن هذه الاتصالات ان تؤدي الى تطوير العلاقات بين الجانبين بما يحقق المصالح المشتركة للطرفين، فصحيح ان حجم التبادل الاقتصادي بينهما مازال ضعيفا ولا يتناسب في مجمله مع حجم ما يمتلكه الطرفان من امكانات ضخمة، غير ان ذلك لم يمنع الروس من الاهتمام بمنطقة الخليج منذ نهاية القرن الفائت فقامت موسكو بافتتاح قنصلية لها في جدة، وكانت الكويت سباقة في اقامة علاقات دبلوماسية لها مع موسكو عام 1963م، تلتها سلطنة عمانوالامارات عام 1985م ثم قطر عام 1988م ثم البحرين عام 1991م، ثم اعادت الرياض علاقاتها مع موسكو عام 1991م ووقعت عام 1994م على بنود اتفاقية اطارية للتعاون وذلك بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وانهياره، وتم بموجب تلك الاتفاقية تشكيل لجنة ثنائية للتعاون الاقتصادي بين البلدين الصديقين من اعقاب زيارة رئيس الوزراء الروسي الاسبق فيكتور تشيرمير دين للرياض، وكان ذلك بداية حقيقية لتطوير العلاقات بين الجانبين الروسي والخليجي. تداعيات سلبية غير ان اشتداد الازمة الروسية - الشيشانية خلال الفترة من ديسمبر 1994 لغاية اغسطس 1996م ادى في واقع الامر الى تداعيات سلبية على العلاقات الثنائية الروسية- الخليجية وكذلك تداعيات الحرب الخليجية الثانية مع بداية التسعينات، فانعكست الازمتين معا على التطورات التي كانت مأمولة بين الجانبين لاسيما ما يتعلق منها بالنواحي الاقتصادية تحديدا، فالتبادل التجاري بدأ يضعف بين دول المجلس وروسيا بشكل لا يتناسب مع الامكانات الضخمة للطرفين مقارنة بالقيمة الاجمالية لتجارتيهما الخارجيتين اللتين لم تزد نسبتهما على 19% من اجمالي التجارة الخارجية لدول المجلس وروسيا، وتعد الامارات وقتذاك الشريك التجاري الاول لروسيا من بين دول مجلس التعاون الست حيث بلغت 381 مليون دولار امريكي عام 1998 اي ربع قيمة التجارة العربية الروسية، وجاءت المملكة في المرتبة الثانية بقيمة 87 مليون دولار، ثم سلطنة عمان في المرتبة الثالثة حيث شهدت تذبذبات واضحة في القيمة والكمية، اما مملكة البحرين فان حجم تجارتها مع روسيا ضئيل جدا من اجمالي تجارتها الخارجية، وتمثل المبادلات التجارية بين قطروروسيا قيمة ضئيلة للغاية، ولم تتوافر اية بيانات تذكر عن التبادلات التجارية لروسيا مع الكويت، ولاشك ان الامور تغيرت بشكل جذري وملموس لاسيما بعد ان اضحت المناخات الاستثمارية في موسكو ملائمة في الوقت الحاضر، لاسيما بعد ان اتخذت روسيا من الاجراءات الاصلاحية في بنيتها الاقتصادية وتبنيها برامج الخصخصة ومكافحة غسيل الاموال وتهريبها. اهتمام بالخليج لقد قامت الدول الصناعية الاعضاء في لجنة العمل المالي الدولي بشطب روسيا من قائمة تبييض الاموال، وفي مجال السياحة على وجه التحديد فان الفترة الماضية شهدت اهتمام الشركات السياحية الروسية باسواق الخليج، حيث استعادت قوتها بعد تغلبها على الازمة الاقتصادية الخانقة التي حلت بها عام 1998م ودليل ذلك ان نزلاء الفنادق والشقق الفندقية من الجنسية الروسية في دبي وحدها بلغوا اكثر من مائتي الف نزيل، ونشطت 526 شركة سياحية تروج لدبي في السوق الروسية، وقام وفد يضم خمس عشرة وكالة سفر روسية بزيارة دبي، وبلغ عدد السائحين القادمين من روسيا الى دبي اكثر من عشرة ملايين سائح خلال السنوات من 1992 لغاية 1997م وبلغت جملة مشترياتهم من اسواق دبي التجارية عام 1997م اكثر من عشرة مليارات دولار امريكي وفقا لاحصائيات رسمية روسية، ويتوقع ان تنتعش السياحة الروسية في الخليج خلال السنوات القليلة القادمة لاسيما ان شركات الطيران الروسية الرائدة اولت اهتماما متزايدا بالرحلات بين الطرفين، اضافة الى رحلات طيران عارضة مازالت تجلب العديد من السياح والزوار الى دول الخليج، وقد ادى ذلك الى قيام وفد يضم المديرين التنفيذيين للتسويق بالخطوط الجوية الروسية بزيارة الى دول المنطقة للاطلاع عن كثب على الصناعة الفندقية فيها وكيفية تقديم الدعم اللازم لتشجيع السياح الروس على ارتياد دول الخليج. سياحة ناجحة وبناء على زيارة الوفد الروسي لدول الخليج تم تعاقد الخطوط الروسية في العام الفائت مع عدة وكالات سفر وسياحة خليجية على زيارة عدة وفود من روسيا قوامها اكثر من الف شخص لكل من سلطنة عمان ودولة الامارات العربية المتحدة وابرمت عقودا لجذب اكثر من سبعمائة سائح روسي الى البحرين، وهذه وسائل لاشك انها توفر مصدر دخل من العملات الصعبة للدول الخليجية، وثمة توجهات من سمو الامير الوليد بن طلال رئيس مجلس ادارة شركة المملكة القابضة للاستثمار في قطاع الفنادق في روسيا، وتطوير مشاريع فندقية وسياحية في المدن الروسية ذات الجذب السياحي، ولاشك انطلاقا من هذا التعاون بين الجانبين في المجال السياحي تحديدا، ان ثمة مجموعة من العوامل السياسية والاقتصادية ساهمت بشكل فاعل في توفير المناخات الملائمة لدعم تلك العلاقات وتطويرها مستقبلا، اهمها الحرص الروسي. الخليجي المشترك على ضمان تحقيق الامن والاستقرار في منطقة الخليج حفاظا على المصالح الاقتصادية الرئيسية، فالاستقرار الخليجي في حد ذاته مدعاة لايجاد بيئات ملائمة ومناسبة للمضي في سياسات الاصلاح الاقتصادي وتنويع مصادر الدخل وتهيئة المناخات المتاحة امام جذب الاسثمارات الاجنبية الى منطقة الخليج، والعمل من ناحية ثانية على توطين رؤوس الاموال المهاجرة، ولاشك ان روسيا مهتمة بهذه المسارات التي سوف تحقق لها مصالح اقتصادية واسعة في منطقة الخليج. أمن الخليج وثمة دعوة روسية هي على جانب كبير من الاهمية طرحها وزير الخارجية الروسي في جولته الخليجية عام 2000م باقامة منظومة امنية اقليمية في منطقة الخليج تضم دول المجلس الست تأخذ في الاعتبار مصالح كافة الدول في المنطقة، اضافة الى ذلك فان ثمة رغبة ظاهرة من دول مجلس التعاون الخليجي في توظيف المصالح التجارية والاقتصادية لخدمة القضايا السياسية الخليجية والعربية والاسلامية لاسيما ان روسيا واحدة من الاعضاء الدائمين والمؤثرين في مجلس الامن الدولي وتملك حق النقض، كما ان مشاركتها في كثير من المنظمات الاقليمية والدولية ومنها على سبيل المثال مشاركتها في مجموعة الدول الثماني الكبرى وكذلك في منظمة (الابيك) وصندوق النقد الدولي ومنظمة (الايزو) ومنظمة (الويبو) وغيرها من المنظمات التابعة للامم المتحدة، لاشك ان دول الخليج تعول على روسيا كثيرا لاهميتها الكبرى في العثور على دور فاعل لها في منطقة الشرق الاوسط على اعتبار انها الوريث الشرعي للاتحاد السوفيتي، احدى القوتين العظميين قبل انهياره، فروسيا بامكانها باقتدار نظير ثقلها السياسي الهائل ان تلعب دورا حيويا في حل الازمة العراقية، لاسيما ان الموقف الروسي من الازمة كان هو المحرك الحيوي للدبلوماسية في الشرق الاوسط منذ استقلالها عن الاتحاد السوفيتي عام 1991م خصوصا في ضوء رؤيتها الواضحة حيال دعم الخيار السياسي لحل الازمة العراقية دون اللجوء الى عمل عسكري تلقائي. ثوابت سياسية من جانب اخر فقد ظلت روسيا متمسكة بثوابتها السياسية حيال الصراع العربي- الاسرائيلي، وتقوم في الاساس على اهمية التزام اسرائيل بانفاذ كافة اتفاقيات السلام المبرمة والمحافظة على مرجعية مدريد، وتطبيق مبدأ الارض وحق الفلسطينيين في اقامة دولتهم المستقلة ورفض سياسة الاستيطان والعنف، كما ان روسيا كانت سباقة لمساندة المبادرة السعودية التي طرحها سمو ولي العهد امام اخوانه الزعماء العرب في اجتماعهم الدوري في العاصمة اللبنانية، وقد تحولت تلك المبادرة بالاجماع الى مبادرة جماعية موحدة لحل ازمة الشرق الاوسط، وتلك المواقف الروسية الثابتة حظيت باشادة الامانة العامة لمجلس التعاون الخليجي التي مافتئت تقدر مواقف روسيا الاتحادية حيال القضايا العربية العادلة وعلى رأسها قضية فلسطين، وقد سعت دول مجلس التعاون في محافل عديدة للتقريب بين روسيا ودول آسيا الاسلامية حرصا منها على سلامة وامن واستقرار اوضاع الشعوب والجاليات الاسلامية في مختلف انحاء العالم، ولاشك ان النية الروسية صادقة في تحسين التبادل التجاري وتقوية العلاقات الاقتصادية مع دول مجلس التعاون في اطار دعم المصالح المشتركة بين الجانبين، ولاشك بالاستناد الى معطيات التعاون، القائمة بين روسيا ودول مجلس التعاون في الوقت الحاضر يمكن القول ان المستقبل يبشر بخير عميم سوف تعود فوائده على الطرفين. السيرة الاولى صحيح ان العلاقات بين موسكو ودول منطقة الخليج شابها شيء من الفتور خلال حقبة زمنية معينة لاسباب سياسية صرفة الا انها عادت من جديد الى سيرتها الاولى، وهانحن نشهد عدة فعاليات من التعاون القائم بين روسيا ودول المجلس سواء في المجالات السياسية او التجارية او الاقتصادية او السياحية او الاستثمارية، وتلك فعاليات لاشك انها سوف تؤدي الى ظهور ايجابيات متعددة من شأنها ان تبلور الاتجاهات الصحيحة لمسارات التعاون بين الطرفين، وكل زيارة لقائد او مسؤول خليجي لموسكو ستؤدي حتما الى مضاعفة قنوات التعاون بين الطرفين، وها نحن نشهد زيارة يقوم بها سمو ولي العهد لموسكو مؤطرا بها علاقات صداقة متينة تجمع ما بين الرياضوموسكو، ومؤاطرا بها كذلك مسارات التعاون القائمة بين دول مجلس التعاون الخليجي وروسيا بحكم ان المملكة واحدة من الاعضاء الفاعلية والمؤثرين في منظومة التعاون الخليجي ويهمها نقل التطلعات والرؤى الخليجية لساسة موسكو بهدف تعميق وترسيخ العلاقات الخليجية الروسية ودعمها ووضعها في مكانها المناسب واللائق بين سلسلة من التعاونيات القائمة بين اقاليم دول العالم، ولاشك ان ترسيخ تلك العلاقات سوف يعود بمنافع جمة على روسيا وعلى دول مجلس التعاون الست، فالمصالح المشتركة بين الجانبين لابد من تأطيرها بمثل هذه الزيارات واللقاءات التشاورية الهامة.