يمكن اعتبار الكاتب جورج أرول مؤلف مزرعة الحيوان بيدبا الإنجليز خاصة والغرب بشكل عام، فقد سبقه الحكيم الهندي بيدبا فوضع على ألسنة الحيوانات في (كليلة ودمنة ) ما أراد ايصاله من آراء، ولو جاء ذلك النقد الساخر على ألسنة البشر لأصبح استفزازيا ومباشرا وحادا. ويبدو أن أرول لم يجد عناء كبيرا في تأليف روايته تلك، كما لم يكن بحاجة إلى خيال واسع لينسج خيوط تلك الرواية، فما كان عليه سوى أن يتأمل سلوكيات رموز الأيدلوجيا حيث تناقض الأفعال الأقوال، والنتائج الوعود، وتتحطم النظرية على صخرة الممارسات. لعل هنالك من نظر إلى ذلك العمل الأدبي أيام ازدهار ال (يوتوبيا) هنا وهناك على أنه دعاية بورجوازية شريرة، شأنها في ذلك شأن كثير من الأعمال الأدبية التي عوملت على هذا النحو فاستوطنت المنفى إلى ما قبل عقد ونصف من الزمان، مع أن كل حدث من أحداث الرواية يقابله حدث مماثل على أرض الواقع. لكن الواقع السياسي والاجتماعي متغير، و دوام الحال، كما يقال، من المحال، فلم يخطر على بال أحد، أن تعرض (مزرعة الحيوان) في المعهد الوطني للمسرح في مدينة بكين. وفي هذا تأكيد لقول الشاعر: "والليالي من الزمان حبالى مثقلات تلدن كل عجيب". أما الحديث عن مزرعة الحيوان فيقودنا إلى تأمل سلوك أبرز شخصية في تلك الرواية وهي شخصية الزعاق الذي اختار أرول اسمه بذكاء ليعبر عن الوظيفة الموكلة إليه أصدق تعبير. فهو جوبلز المزرعة، وابن بجدتها، وخطيبها المفوه، والناطق الرسمي باسم القيادة. لديه حنجرة ذات كفاءة عالية، ولا تحتاج إلى مكبر صوت. وهو المثقف بين قوسين القادر على المراوغة والمناورة والمداورة اللغوية، وهو كبير الرواة وحاوي الحواة، حيث الغاية عنده تبرر المغالطة. عنده إجابة غير شافية على كل سؤال، وقدرة خارقة على تحويل الأسود إلى أبيض، والخطأ إلى صواب، والكوارث إلى تكتيك مرحلي، والهزائم إلى انتصارات، ولا شيء البتة يستعصي على خياله الخارق للعادة. فهو يستطيع أن يثبت لمحدثه بأن حبة القمح هي التي التهمت الدجاجة وليس العكس، مع أن ذلك منطق لا تقبل به حتى عقول الدجاج. كتب أرول روايته الشهيرة (مزرعة الحيوان) مستمدا أحداثها من تاريخ الأنظمة الشمولية الغربية، لكن الأمر ليس قاصرا على الغرب وحده، فقد حظي الشرق بنسخ كربونية أكثر وضوحا من الأصل. وليس صعبا على من شاهد مسرحية دريد لحام (كأسك يا وطن) أن يتعرف على صورة الزعاق كما رسمها أرول، لأن الزعاقين متشابهون في الشرق وفي الغرب. إن الزعاق العربي في مسرحية دريد لحام هو ذلك الذي تطرح عليه سؤالا محددا وواضحا وضوح الشمس في رابعة النهار فيغيب في دهاليز المداورة وكهوف المناورة، ليجيب إجابة لا صلة لها بموضوع السؤال على الإطلاق. تسأله مواطنة مغلوب على أمرها عن أسباب انقطاع التيار الكهربائي فيجيب قائلا: "إن التيار المعادي لن يمنعنا من الوقوف بحزم إلى جانب حركات التحرر في العالم أجمع مهما بلغ انبلاج التيارات المتصارعة.. لنحقق قفزتنا النوعية ذات التوتر العالي نحو مستقبل مضيء"! إنها بالفعل صورة كاريكاتورية مضحكة لكن الواقع نفسه زاخر بالمضحكات التي لا يمكن التعبير عنها إلا على هذا النحو. وهي لغة مازالت سائدة في بعض الأوساط الثقافية حتى اليوم. وإذا كان ما يصنع من الفيلسوف فيلسوفا هو تلك الحركة التي تقود باستمرار من المعرفة إلى الجهل ومن الجهل إلى المعرفة فإن ما يميز الزعاق هو تلك الحركة التي تقود باستمرار من الوهم إلى الوهم ومن الخطأ إلى الخطأ ذهابا وإيابا. وإذا كان الفيلسوف سلسلة متصلة من الأسئلة فإن الزعاق سلسلة متصلة من الأجوبة التي تبشر بمجتمع يتآلف فيه الذئب والخروف ويربض الجدي إلى جانب النمر، إنه مجتمع الرفاهية حيث تسقط الفاكهة من الأشجار لتقع في أفواه الناس مباشرة. غير أن هذا الكلام معد لاستهلاك العامة، وعلبهم وحدهم أن يضحوا حتى يتحقق هذا النعيم الموعود. بالروح.. بالدم.. لا أدري من كان له قصب السبق في اختراع الهتاف القائل: " بالروح بالدم نفديك يا... أي حاجة !". أقول "أي حاجة" لأن العبارة جاهزة للاستعمال، وتناسب كل القامات والأسماء، ولعلها اختراع شرق أوسطي لم يسبقنا اليه أحد. لكن من المؤكد أن الزعاق الذي اخترع هذه العبارة لا يؤمن بمضمونها، وإنما اخترعها لاستهلاك الشارع. قبل أيام، وعندما خسر ملحم الزين في مسابقة (سوبر ستار) التي تبناها تلفزيون المستقبل، خرج المعجبون بملحم ممن لم تعجبهم النتيجة في مظاهرة احتجاج صاخبة. إلى هنا والحكاية عادية، فليس غريبا أن يحظى نجوم الفن أو الرياضة بتلك الشعبية، وليس غريبا أن يجد المشجعون أية وسيلة للطعن في النتيجة، أما ما يلفت الانتباه في هذه المظاهرة (الفنية) ويثير الضحك فهو الهتاف القائل: " بالروح بالدم نفديك يا ملحم!!". ومع احترامنا لمشاعر الجميع وحماسهم وحرصهم على فوز نجمهم المفضل إلا أنه لا علاقة "للروح و الدم" بتلك المسألة الفنية البحتة. فلماذا يزج بهما في قضية لا صلة لها بالدم من قريب أو بعيد. إن ذلك شبيه بعبارة داود حسين في مسرحية (انتخبوا أم علي) حين عطس وقال له أحدهم: "يرحمك الله" رد عليه قائلا: "عيدك مبارك"!! لكن أي زعاق كذلك الذي اخترعه أرول سيجد علاقة ما قد لا ترى بالعين المجردة. مع أن العلاقة الوحيدة التي يمكن أن تستشف من ذلك الهتاف هي أن هذا العنف اللغوي عالق في كثير من مضامين الخطاب اليومي. و لو تتبعنا مثل هذه المفردات المدججة بالعنف فسنجدها متغلغلة في قصائد الحب والغزل والمديح ناهيك عن قصائد الفخر والحماسة.