كثيرون هم الذين يفنون اعمارهم في الكتابة والابداع دون ان يكون ماضيهم الدراسي والجامعي محفزا او على درجة معينة من الاهمية, حيث ان المناهج الدراسية في الوطن العربي ليست منشغلة بتخريج مبدعين او كتاب كما هي مسئولة بدرجة او باخرى بتخريج علماء او اكاديميين, وهناك الكثير من المنشغلين بالثقافة والحاملين لهمومها دون ان يكون ثمة ارتباط بين مسئوليتهم الوظيفية كمدراء ومسئولي ادارات وشركات وبين ممارساتهم الثقافية, هل هذا تناقض ام مصير محتوم, ام خطأ استراتيجي نشأنا عليه ومازلنا نلعق بعض سمومه, لعلنا نكون متشائمين حين نعتقد ان هناك تناقضا او تشابكا الا ان الساحة الثقافية تصطرع فيها جميع الاشكالات, وتستوعب اكثر التناقضات تباينا على مستوى الفكر والعمل والمنهج, الامر الذي اكده الكثير من المثقفين الذين طرحنا عليهم تساؤلاتنا واشكالاتنا. القاص حسن الشيخ يقول انه لم يختر يوما كتبه او اساتذته واضاف قائلا: فتحت عيني على هذه الحياة وقرأت اول كتاب تناولته يدي, لا ادري حتى اليوم ان كان ينبغي علي قراءته ام لا ولم اسأل نفسي حتى اليوم ان كان مفيدا ام رديئا. ويقول مستطردا اننا لانختار تخصصاتنا ولا مجال دراساتنا كما لا نختار اسماءنا حين الولادة. هناك اسئلة عديدة تلح بشكل دائم, وهناك محاولة للاجابة عن التصادم الخفي بين ما درسته وبين ما اكتبه. لماذا اخترت الكتابة عالما خاصا بي؟ ماذا لو انني درست الطب البيطري وعملت صحفيا؟ ماذا سيحدث حقا لو انني كتبت كتابا (اسهل الطرق لكي تكسب مليون ريال) وانا مفلس؟ لن يحدث شيئ لاننا نعيش التناقضات الجميلة. كيف بدأت صلتي بالكتابة؟ وهل لهذا العالم صلة بما اعمل؟ لاكون صادقا فانا انسى في احيان كثيرة اين اعمل. هل تحولت الى مهرج كبير. اعتقد ذلك. ويتساءل الشيخ: هل كانت حقا صدفة ان اعمل صحفيا قبل ان ادرس الصحافة. وهل كان ذلك من قبيل الصدفة ان يسمى ما اكتبه ادبا وانا لا اعرف الفرق بين حروف الجزم وحروف النصب.. ويصل الى نتيجة وبكل بساطة يقول: لا يوجد هناك حبل مشدود بين ما ندرسه وبين ما نكتبه. بل فراغ مخيف. ويقول الشاعر سعد الجحدلي: ليس هناك ارتباط بين مجال الابداع وبين تخصصي وان لم يكن هناك تناقض فانا مدرس لغة انجليزية وشاعر, وقد اضافت تجربتي في التدريس والحياة بان اكون مغامرا تواقا الى اقتحام المجهول. ولا يرى الجحدلي مانعا من ان يكون هناك تناقض بين الابداع ومجال التخصص او حتى الشهادة الاكاديمية, فالابداع في النهاية سيظل ابداعا حتى لو اتى من ميكانيكي او اي مهنة اخرى فان الآخرين سيقدرونه وينحنون له اجلالا. ومن جهة اخرى يؤكد الجحدلي اهمية الثقافة للمبدع فهي تراكم حياتي وانساني ولا يعتمد على نوع التخصص او الوظيفة المثقف والكاتب عليه ان يعتمد على ثقافته الخاصة. اما القصاص والناقد عيد الناصر (مجال عمله التأمين) فيقول: لا توجد علاقة مباشرة بين اهتماماتي الثقافية وشهادتي الجامعية ولكن في نفس الوقت لا اجد ان هناك تعارضا. فالحياة متداخلة ومتوحدة, ومن العسف الفصل بين تفاصيلها والا سقط جزء مهم من جمالياتها. والادب حب قبل كل شيء ومن هنا فهو مثل الرحم يحتضن كل الافكار والعطاءات بكل اطيافها, وفي تصوري لا توجد مهنة او تخصص اكاديمي لا يصب في خدمة الحياة الانسانية ومن ثم الابداعية بشكل او بآخر. العسكري المحترف اذا تورط في حب الادب يستطيع ان يبدع اروع النصوص وهو يتحدث عن معاناته وتجربته في ساحات الوغى, وكذلك الميكانيكي على ظهر السفينة, الذي يقضي الايام والاشهر دون ان يرى اليابسة, يستطيع اذا امتلك الحس الادبي ان يبدع ويقدم للقارئ ما يفتح الشهية الذهنية وينير الآفاق وقس على ذلك. مضيفا ان المشكلة هي في وجود الاكاديمي المتخصص الذي لا يملك اهتمامات ادبية او فنية تسبغ على حياته الاكاديمية بعضا من الطراوة وتفتح امامه الآفاق الانسانية الرحبة. حقيقة لا استطيع ان اتذكر مجالا اكاديميا واحدا لا يصلح ان يكون نهرا من الانهار التي تصب في خانة الابداع الادبي. وبما ان مجال عملي هو التأمين, فاني كثيرا ما اصادف لقطات ومشاهد معينة تجد مكانها في بعض كتاباتي سواء القصصية او الاجتماعية. ففي مجال التأمين نتعامل مع كافة شرائح المجتمع, ونستطيع ان نلتقط كيف يتصرف البعض وبالذات اثناء تقديم المطالبات, كيف تتم عمليات التحايل والتلاعب والتلفيقات (وبذكاء شديد احيانا) ومن اناس تحتار في تفسير مبررات تصرفاتهم حين تعرف وضعهم المالي والاجتماعي (على سبيل المثال: غني ويحاول سرقة بضعة مئات من الريالات. لماذ؟ هل هي التربية ام ماذا؟). وهذه الحوادث وغيرها صارت مصدرا حيويا في الغرب وتحولت الى افلام وروايات وقصص. وقس على ذلك كل التخصصات العلمية والاجتماعية, فنحن نعرف بان عددا لا بأس به من الكتاب العرب والاجانب ممن لهم باع كبير في مجال الابداع القصصي والروائي والشعري لم يتخصصوا في مجال الادب والفن. وبالنسبة للتناقض بين الدراسة والابداع ومجال العمل فضل الناصر طرح السؤال بطريقة مختلفة وهي: ترى هل التخصص في الادب يساعد في ولادة المبدع الادبي؟ وقال: ليس بالضرورة, فالابداع هو في الاساس حب, حب للعطاء الانساني, وحب متواصل للمعرفة والاطلاع, وموهبة وفضول متعطش ومتجدد لتفاصيل المعرفة اينما كانت. ولو نظرنا الى الاف المتخصصين في مجال ما من مجالات الادب وعرفنا ان بعضهم لم يخط مقالا واحدا في حياته بعد تخرجه من الجامعة لربما استطعنا ان نتلمس حقيقة العلاقة بين التخصص الاكاديمي والابداع الشخصي, سواء كان الابداع في مجال الادب او غيره. التخصص في مجال الادب قد يساعد من لديه ميول او هواية وحب للاداب بحيث يختصر عليه المسافات في بناء الجانب النظري والتاريخي الخاص بالادب. ولكن في كل التخصصات (بما في ذلك الادب) المهم هو ما يأتي بعد ترك مقاعد الدراسة الاكاديمية لا تعطي المتخرج اكثر من مفتاح للمكتبة وطريقة البحث. فمن تخرج ونام على ما درسه تبخر ما علق في ذاكرته بعد بضعة اشهر, ان لم يكن في اسابيع, اما من داوم على القراءة والبحث والاطلاع فيبقى كما الوردة المتألقة على مدار الايام تفوح بأريجها اينما حلت. ويرسم ذاكر الحبيل المسألة منذ البداية ويضعها في اطارها الحقيقي قائلا: هدر الامكانية هو العنوان العريض لسوء التخطيط الاداري والاقتصادي في الدول المتخلفة والعالم الثالث, هذا ما يصل اليه الباحث عن السبب الرئيسي لمعوقات التنمية البشرية, والتي قوامها الاساسي العناية ببناء الانسان وكفاءته وجعله هدفا استراتيجيا يسعى اليه الجميع الفرد ذاته والاسرة والمدرسة والمجتمع والدولة, وجعله السياق الموضوعي حراكا اجتماعيا وسياسيا يستهدف التنمية الوطنية الشاملة, ولكن ما يحصل في بلداتنا العربية خصوصا, عكس ذلك تماما, فمنذ نعومة اظفارنا يقتل فينا فضول السؤال من خلال ابوة غير معينة باسئلتنا المستكشفة لما حولنا, ثم تأتي دور المدرسة ومناهج تعليمية رتيبة تتعلق بالحفظ من اجل النتيجة لا من اجل الفهم والمعرفة.. واكتشاف الحقائق وحيث قلة الالتفات الى النابهين, ثم تأتي القاضية بعد ذلك بعد المراحل التعليمية تلك نصل الى الوظيفة التي تأتي غالبا بعيدة عن التخصص العلمي او المهني او الجامعي, حيث ما هو دارج وضع الرجل المناسب في المكان غير المناسب, ويكون الهم الاوحد امام شح الوظائف السعي نحو الوظيفة حتى لو كانت متفارقة مع كل ذلك الجهد الذي بذل, وتكون التضحية بالشهادة بداية متوالية النية الوجودي في معترك حياة خاسرة, ولا ينحسب هذا الامر على العمل الحكومي او شبه الحكومي فقط بل وينسحب ذلك الامر حتى على الشركات الاهلية والخاصة, والتي يتوقع منها ان تولي الجودة والانتاجية اهتماما متزايدا يجعل من اختيارها الكفاءة لموظفيها وتخصصاتهم ووضعهم في المكان المناسب, عملية دقيقة وموضوعية. الامر الذي لو كان غير ذلك فسوف تكون الكارثة المستديمة في انخفاض النمو الاقتصادي الى نسب متدنية, هذه من جهة من جهة ثانية فيما لو حافظ بعض الجادين على اهتمامهم التعليمي ومواهبهم فيها مع وظيفة غير منسجمة, فسوف تكون النتيجة المفترضة الفرار من الوظيفة الى هجرة محتملة الى حواضر العلم والتجربة الصناعية الكبرى, اما الى مواصلة العلم, او الحصول على فرص وظيفية منسجمة مع التخصص او لتسجيل براءات اختراعتهم التي لم تول اهتماما في بلدانهم الام. ويضيف الحبيل قائلا: ان المشكلة الاخرى في قائمة مشكلات الانسان في بلداننا يوم تكون مواهبة وابداعه بعيدة عن تخصصه العلمي وشهادته وكذلك وظيفته, الامر الذي يعزز الاغتراب عند هكذا افراد ويجعل من معاناتهم مضاعفة, ويجعل منهم ضحايا مجتمع لا يقدر لهم ذلك الجهد والتعب فيما يبدعون, ومن ثم تكون المفارقات الخاسرة, توقف ابداعهم, او الجنوح الى التباعد الحاد بينهم وبين افراد مجتمعهم, ولربما الى الهجرة الناقمة الى الغرب, او لاسمح الله الى المصحات العقلية, او في احيان ليست بقليلة الى الانتحار والعياذ بالله, كل ذلك يأتي في صورة مأساوية معاناة الانسان الجاد والحامل للابداع, والحاضن لدافعية الانجاز الجميل لكي تضاء سماؤنا بالمزيد من فاعلية الحياة وتطورها ونمو المعيشة على نحو يحقق التطور والنماء والرفاه. ويرى الموسيقار سامي احسان ان الدراسة تأتي من خلال الجد والمثابرة من اجل بناء مستقبل وظيفي على مستوى يتناسب وسنوات الدراسة ومن يريد وظيفة من هذا النوع لابد له من جهد مكثف, ومن غير المعقول ان يحصل الانسان على وظيفة دون دراسة. اما الابداع فليس من الضرورة ان يتعارض دائما مع الوظيفة, فقد يحدث ان يتواءما او ينسجما ومن جهة اخرى يشير الى ضرورة ان يجيد كل مثقف وكل مبدع مجال تخصصه الابداعي, وبالنسبة لي فمهما كانت وظيفتي وتخصصي الدراسي فانه يتوجب علي ان اتقن فنون الموسيقى, وهل سيعفيني من اللوم والعتاب والنقد لو كنت مثلا مهندسا ميكانيكيا, مضيفا انه ما دام الانسان قد اختار مجالا ابداعيا من اي نوع فانه من المتعين عليه ان يتحمل نتيجة هذا الاختيار, حتى لو كان هناك ثمة تناقض بين الوظيفة وبين مجال الابداع او حتى مجال التخصص, نافيا ان يكون هناك اي ضرر ان كانت هذه المجالات الثقافية متباعدة.. ما يهم هو عزيمة المبدع ومدى تحمله لهذا الابداع, اما ان كان للوجاهة او لتمضية الوقت فانه لن يواصل وسيتأثر حتى لو كان هناك انسجام بين كل تلك الامور. ويعتقد الشاعر ابراهيم اليامي ان الدراسة المنهجية لا ترتبط بالابداع لان الدراسة في داخل اطار التعليم تأتي ضمن سلسلة الحصول على الشهادة الدراسية وذلك من اجل الوظيفة والمركز الاجتماعي, وهذا شأن اغلب الناس, اما الابداع فانه في احيان كثيرة لا يعتمد على الدراسة وقد يكون هناك تباعد بينهما فكم هم اساتذة الجامعات الذين لا يوجد لهم اي حضور فضلا عن الفعالية في المشهد الثقافي. ومن جهة اخرى يضيف اليامي ان التخصص لا يتعارض مع الابداع فقد تجد ميكانيكيا مبدعا في القصة او غيرها مما يجعل الابداع له عوالم اخرى بعيدا عن الوظيفة والمكانة الاجتماعية, مضيفا ان الوظيفة بالنسبة اليه مصدر رزق فقط ولن تقف عائقا امام الابداع, وطموحي سأصل اليه لانني اسعى في سبيل ذلك, ومن هذا المنطلق فالتناقضات بين الوظيفة ومجال التخصص لا دخل لهما بابداعي اطلاقا. وتبقى الساحة الثقافية تستقبل بشكل دائم ومستمر ودون اي كلل او تبرم من المشاكل والتناقضات التي يحفل بها المثقفون والمبدعون. وما دامت هناك رغبة عارمة لدى الكثيرين في الزج بابداعاتهم وعطاءاتهم الثقافية والادبية في ساحة الثقافة, اذا لا تبقى هناك اية اهمية لهذه التناقضات, وان كانت الحاجة ملحة الى وضع بعض الحدود لهذه الاشكالية حتى لا تتسع الهوة بشكل مخيف ولكي تبقى شعلة الابداع مضيئة. ولكي لا يتهم اي طرف بانه هو المقصر وهو السبب الرئيسي في خلق هذه الفجوة فان الجميع يبدو انه له نصيب من المساهمة والمشاركة في تقريب وجهات النظر حتى تسير عربة الابداع دون توقف. حسن الشيخ