بدءا، لكي نتفهم طبائع الامور كما تدور، نحن مضطرون الى التسليم بان ما يجري من قبل الغرب الان ومن خلال نموذجه (البوشي) (الرامسفلدي) تحديدا هو ما كان يمكن ان يحدث من اي امة تملك ادوات السيطرة على العالم والنفوذ فيه. اي ان كل امة تود ان تسيطر عل العالم لو استطاعت. وها هو ذا كتاب التاريخ بين ايدينا، فما من حضارة ملكت زمام الامور وتخلت عنها، مهما اختلفت بها الادوات والايديولوجيات. ما لم نتواضع على الاقرار بهذه الحقيقة، فسنظل بين: جلد الذات باسم نقد الذات، او الالقاء بها الى التهلكة في اتون محرقة مرصدة لها سلفا، او التسليم السلبي والاستسلام الخانع لارادات الاخر. بعد ان نعي حركة التاريخ المشار اليها، ينبغي ان نعرف الغرب حق معرفته. ذلك اننا كما نشكو نحن من نظرة الغرب النمطية الى العرب والمسلمين جملة وتفصيلا على انهم ارهابيون، فان الغرب ليشكو منا نظرتنا اليه جملة وتفصيلا على انه شر كله وعدوان لا سبيل الى الالتقاء معه. ولكلا الطرفين رصيدهما من المتطرفين الذي يؤكدون تلكما الصورتين النمطيتين بين حين وآخر ويرسخون ذلك العداء المزمن، ويغذون نزعات جاهلية جهلاء لدى كل فريق ان الغرب ليس واحدا، وان الولاياتالمتحدةالامريكية ليست كلها اليمين المتطرف الحاكم الحالي. بدليل ان اقوى الاصوات التي تعلو واكبر المظاهرات التي تظهر للتعبير عن بعض القضايا العربية والاسلامية تخرج من الغرب، قبل ان تخرج على استحياء من الشرق، وتعرب عن تلك القضايا على نحو ابلغ مناصرة مما قد نفعل نحن، العرب والمسلمين. هل ذلك لتواري الحريات او انعدامها هنا وقيامها هناك، فحسب؟ نعم الحرية عامل مهم لا ريب، لكنها عامل واحد من جملة عوامل ثقافية وحضارية تجعل الانسان يهتم لامر الانسان يهتم لامر الانسان اينما كان، بل يشمل باهتمامه الحيوان والطبيعة والبيئة في هذا العالم الذي نعيش فيه. اين الحل اذن في هذه المآزق الفكرية والحضارية التي تذهب الامة العربية والاسلامية ضحيتها، اذ تخرب بيوتها بايديها قبل ايدي الاخرين؟ ان المتجرد عن الاهواء ليرى الامة الاسلامية - ومن جملتها الامة العربية- قد أتيت في مقتل، كما أتيت امم ذات رسائل قبلها. فاذا كانت اليهودية قد اتيت من حب المادة، ثم اتيت النصرانية من الرهبانية التي ابتدعتها وما كتبت عليها ولا رعتها حق رعايتها، فكان الاسلام قد أتى من تغييب اهله العقل واحتقارهم اياه. لذلك شاعت فكرة (التعارض بينه وبين النقل)، وان الدين ليس بالعقل، و(من تفلسف فقد تزندق)، وان الاسراف في استخدام العقل للتأمل في كون الله طريقا خطيرا على العقل والدين معا، ف(العقل قاصر عن الادراك)، ونحو هذه من المقولات، التي ظاهرها حق وباطنها من قبله نشر خطاب تخلفي لتعطيل العقل او التحذير منه. ومن ثم فهناك تعارض حتمي وفق ذلك الخطاب - بين الديني والعلمي، او العلماني، كما يحلو النعت لدى خصوم العقل. والعلمانية قد باتت - في مختلف صورها - مرادفة للكفر، ضربة لازب. وخلاصة المحصلة انك لكي تكون مسلما حقا فعليك حسب هذا الفهم غير الاسلامي اصلا ان تقلع عن التفكير او الاهتداء بنور العقل، وان تنشد السلامة في ايمان العجائز. لهذا التصور القاصر المغلوط يوشك ان يجرد الاسلام نفسه من طاقاته الانسانية العالمية الخلاقة، مثلما حولت النصرانية من قبل الى ممارسات كهنوتية معزولة، يجرد عن حنيفيته، ووسطيته، وعقلانيته، وتوازنه الذي تميز به عن الرسالات السالفة، بوصفه الرسالة الخاتمة، وقد جعلت تلك العقلية (اللا عقلية) تدعم خطابها بالنصوص بعد ان تعمل فيها ادواتها من التأويل تارة او من تحجيم دلالات النصوص واضحال معينها تارة اخرى، وحسب مقتضيات الخطاب خذ على سبيل المثل مفهوم (إعداد القوة) الوارد في الآية الكريمة: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون) (الانفال:60) ستجد انه قد حصر في معنى اعداد السلاح القتالي المباشر فقط، حتى وان كان هذا السلاح نفسه مشترى او مختطفا، دون النظر في مقتضيات الاعداد الحقيقي، من بناء الحضارة التي تنتج السلاح، لا تضطر الى تسوله ولا سرقته. فالرسول صلى الله عليه وسلم، قد اعد الدولة اولا وصنع القوة بكل دلالاتها الحضارية، ولو جعل وكده السلاح الحربي وحده، وكيفما اتفق، لكان صراعه مع مناوئيه كأيام العرب نهبا وسلبا، ديدن العرب في الجاهلية الذين كانوا محض أتباع لدولتي الفرس والروم، بأسهم بينهم شديد. بل ان ذلك الفهم الجزئي لمقتضيات القوة لا يتنبه الى تعدد أسبابها، فكما أننا اليوم لم نعد نعد رباط الخيل للحرب، فان القوة بمفهومها الشامل لم تعد اليوم القوة الحربية وحدها، بل منها القوة الاقتصادية والثقافية والاعلامية والتقنية.. الخ. ومن هذا المنطلق، يمكن القول ان اليابان مثلا - لو كانت مسلمة- لكانت خير امة فهمت اعداد القوة على وجهه الذي كان المسلمون احرى ان يفهموه، حين اخذت بسنن الله في الكون وفي العقل وفي القوة، فبنت السلاح الحضاري الذي تقارع به عدوها الذي احرقها باسلحته النووية، لتحرقه اقتصاديا وتغزوه تقنيا وترهبه في عقر داره، دون قعقعة السلاح ولا طنين الخطب. أفلا نعقل؟ افلا نتدبر؟ أفلا نتفكر؟ تلك أسئلة القرآن الاستنكارية لا تزال قائمة اليوم كيوم ان وجهت إلى العرب منذ الف واربع مائة عام. فهل من مجيب؟ لن تمطر السماء ذهبا، على كل حال! @@ كلية الآداب جامعة الملك سعود قسم اللغة العربية