أعمال عديدة وترجمات كثيرة طرحت من خلال الجهد المغاربي العربي الذي تابع الى حد النظريات النقدية الغربية وعمل على تقريبها وتقديمها اسماء كثيرة شاركت في هذا الجهد وان تفاوت العطاء، فثمة اعمال اربكت الساحة اذ زجت بالمصطلح النقدي الغربي دون تمحيص ودون ادراك كاف بكيفية النشأة ومشكلات التطبيق فبدت تلك الاعمال غريبة حتى في محاولات المقاربة على النص العربي التي قامت بها، وثمة اعمال اكتفت بالطرح المحايد من خلال الترجمة وتركت للقارئ حرية الحكم من خلال اعمال فكره. وهناك اعمال وترجمات تمثلت النظريات النقدية الغربية وحاولت تطويعها من خلال الانتقاء والتمييز فأثرت الساحة وعملت على تحريك الركود الذي ساد والذي ساهم في سيادته تلك الدراسات الاكاديمية المتراكمة حول نفس المعنى ونفس الرؤية التراثية دون اضافة او تحديث وضمن الاعمال التي تقع على مسافة بين الارتباك وتلك المنطقة التي يمكن لنا ان نلتقط منها ما يثري رؤيتنا النقدية يكون كتاب (الدال والاستبدال) للتونسي عبدالعزيز بن عرفه وهو كتاب يعتمد منهجية جاك دريدا حول التفكيك والاختلاف اذ يبدو ولع الكاتب بأفكار دريدا وتبنيه للعديد من المصطلحات التي قدمها في اعماله المختلفة، ومن خلال هذه المنهجية يقدم (بن عرفة) بعض الدراسات والترجمات عن جاك دريدا، وهيدجير، وجورج باتاى، ورولان بارت، وفان جوخ، وبازولينى، وصمويل بيكيت وتتنوع ابداعات ونشاطات هذه الشخصيات بين الفلسفة والنقد والتشكيل والسينما والمسرح والموسيقى ويحاول الكاتب تناولها من خلال مناطق خاصة تتعلق بفلسفة الاختلاف التي تبناها، ورغم التباس الرؤية حول مفهوم المنهجية الا اننا نستطيع ان نلمح هنا وهناك بعض الرؤى الدالة من خلال اجتهاد الكاتب في التفسير. الدال والاستبدال والدال والاستبدال يعني حسب مفهوم الكاتب، تلك الطاقة الذاتية التي تلتقي بالاشكال الجمالية والكتابية فلا تفتأ تحولها. ومفهوم الاختلاف الذي تبناه يشتمل على عدة مترادفات قاموسية اهمها كما قدمه. * الأثر : وهو ما يقبل الامحاء وما يتنافى والحضور وما يتعارض مع العلامة القارة وهو بنية تحيل على الآخر. * الاختلاف : المرجأ وهو عملية قوامها الارجاء والتمييز (الفصل) وهي لا ارادية. * الانفساح : ليس شيئا وليس بياضا وانما هو فعل يعطل كل عملية تختزل المغيرة او تحتوي المختلف. * الملحق : كل عملية ترجئ حلول موعد الحضور. * بذر - نثر : عملية تبديد ذرات المعنى حتى لا تستقر عند وحده تجمعها. * النص : ابن اللغة المختلف عنها والذي يسائلها ويغيرها. * وسم : يثير الى الخواء والاكتناز في آن. * الابطاء او التأخير : الحضور المتشح بالغياب للجذر الانطولوجي. * العلاقة بين المفاهيم : التلاقى حول مفهوم والاستقلال عنه. غموض والدراسة التي بدأ بها الكاتب عن جاك دريدا يقدم لها بكلمات غامضة حاولت الوقوف عندها ولكني لم استطع يقول ابن عرفه : (ان دراستنا (...) حول جاك دريدا والقارئ ربما كان اكثر منى اطلاعا على ما جد من دراسات في سوق ساحتنا الثقافية، تستعرض فلسفته (جاك دريدا) وقد تكون تلك الدراسات اكثر منهجية، واكثر استفاضة، لكن محاولتنا تطمح الى تحقيق شذ آخر انها تطمح الى الاحتفال بلغة الضاد : بجرس حروفها (ونغم ايقاعها). حاولت ان اقيم العلاقة بين دراسة حول (دريدا) ولغة الضاد فلم افلح فالذي يقدمه الكاتب نصا يعتمد في جزء على تبيان السياق الفلسفي الذي تندرج فيه فلسفة دريدا وذلك بصبغة تعليمية ذهنية (وفق رؤيته) وان حاول في باقي الاجزاء الابتعاد عن صيغة العرض الاكاديمي والمعلومات التي قدمها الكاتب تعتمد على دراسة فرانسيس قيبال عن (غيرية الآخر - على وجه مخالف) والتي قدمت في منشورات أوزوريس. وفي محاولته تقديم السياق الفلسفي الذي تندرج فيه فلسفة جاك يكشف لنا الكاتب عن منطق الاختلاف بين تلك الفلسفة والفلسفة التي سبقتها من افلاطون الى هيجل اذ ان هذه الفلسفة (السابقة) هي فلسفة الحضور. اي ان الوعي لا يعترف الا بما يحضر (في الوعيش وان ما هو واقعي لا يمكن، الا ان يكون عقلانيا، وحسب هذا الاجراء فان الذات الانسانية تختزل في الوعي فهي لا تعدو ان تكون مجرد (أنا) ضمير الحضور. اما منذ هيدجير فقد حدث انقلاب يقول بفلسفة الغياب تناول دريدا وانطلق منه ويعني ان في الذات جانبا خفيا وسريا لا يحضر في الوعي ولا يمكن للفكر ان يتمثله ويعكسه فيبقى دائما غائبا وفلسفة دريدا تقول بهذا الآخر المغاير الذي ينأى عبر صيرورة الاختلاف. وتدفع بنا الى الخروج من قوقعة الذات والشعور بالآخر فاكتشافك لهويتك يتطلب الخروج عنها لتتم عملية الكشف. فالكلام ينبع من الاختلاف ليتم التواصل، ودريدا هنا ضد مبدأ القطيع والمراقبة والسيطرة والاختزال وضد من لا يهتمون الا بتضميد الجراح ونفى الآخر. ولأن الآخر لا يدجن ولا يختزل ولا يمكن احتواؤه فهو لا يحضر تماما في الوعي بل يبقى جانب منه غائبا. والقراءة التي ينشدها دريدا ليست استملاكا ولكنها تواصل مع الآخر وبحث عن كل علامات الغياب في النص او في القول. ومن نصوص دريدا يسوق لنا بن عرفه بعض المقتطفات التي تؤكد تلك الفلسفة وتشير الى ان الآخر الحاضر الغائب والمغير هو مبعث النصوص جميعها وان تقويض النص ضرورة لفهمه وفي نهاية الدراسة يطرح الكاتب بعض الاسئلة أولها يتعلق بفعل الهدم (التقويض) من حيث هو استراتيجية ومغامرة وخطة للاحاطة بالبنية والسؤال هو الى اي مدى لا تقيم منهجية دريدا اعتبارا للخطر الذي تقبل عليه دون ضمانات، الا يوجد في تلك المنهجية شكل من اشكال السيطرة. والسؤال الثاني بالغيرية (الغير) من جهة وبالفساد من جهة ثانية : أليس فعل الاختلاف في حد ذاته من حيث هو مقاربة للآخر المغير تماما (..) يتطلب هو بدوره مقاربة تتولى قضيته وذلك لتلافى كل فعل اختلاف يتحول الى فعل اختزال؟ ورغم هذه التساؤلات وتساؤلات اخرى فان ابن عرفه لا يساوره شك في ان (دريدا) يستحق التحية بشجعاته التي جعلت من فعله الكتابي سلاحا ضد الوهم. لقاء مع جاك دريدا حوار في القسم الثاني من دراسته يحاور الكاتب جاك دريدا الذي يوضح انه مولود بالجزائر وبقي فيها حتى 19 سنة وان له جذورا متعددة في الثقافة العربية والمغربية والفرنسية. ويستفسر (بن عرفه) من دريدا عن مفهوم (التآخر) الذي يجيبه بأنه رديف لمفهوم الاختلاف وقد يعني الاتيان باكرا او المجيء قبل الأوان فيحصل الاختلاف او الانزياح او عدم التطابق. وفي سؤال عن كيف يسمح الآخر الاوروبي لنفسه بأن يفرض على الآخر العربي او غيره منظومة علاماته ثم يقول بعد ذلك (أنا ديمقراطي)؟ اجاب دريدا بأن الديمقراطية تبدأ من اللحظة التي يتم فيها ميثاق التواصل ومن اللحظة التي يساق فيها اخطاب مشروطا بأطاره وفضائه : اي ان الديمقراطية ليست معطى يتنزل ضمن اطار تاريخي ولكنها ممارسة تستند الى ظرف مكاني. الظرف لابد ان يكون مشروطا بعقد يلتزم به الطرفان للحظتهم طبقا لميزان يجمعهم ويفرقهم ساعة انخراطهم في سياق اخطاب. ملامح الكينونة لدى هيدجر. الكينونة في فصل جديد عن ملامح الكينونة لدى هيدجر مفكر الاختلاف الذي التقط منه دريدا طرف الخيط ليعمق هذا المفهوم (الاختلاف) يبدأ الكاتب بتقديم توطئة تبدو ضرورية يتناول من خلالها مفهومي الملفوظية والاختلاف لاعتماد المقاربات الحديثة عليهما في قراءتها للارث المعرفي والثقافي والتراثي. الملفوظية للتمييز بين السرد والخطاب حيث السرد حكي يساق مجردا ومحايدا وبواسطة ضمير الغائب وفي زمن ماض اما الخطاب فعلى عكس السرد يتسم بحضور صورة المتكلم ولذا يصاغ نحويا اعتمادا على ضمائر المخاطب والمتكلم في زمن حاضر وبذلك لا يشتمل الخطاب على عنصر الملفوظية بخلاف اليرد الذي يفتقدها. وان كانت هناك نصوص تعتمد على استعمال الخطاب غير المباشر لالغاء الحدود الفاصلة بين السرد والخطاب. الاختلاف : ويعتمد على الاصغاء الى مفردات اللغة لاقتناء اثر الاختلاف والبحث عن مدلولات النص. وينتقل الكاتب الى الكينونة على ضوء ما جاءت به فلسفة الاختلاف ويشير الى انها الواحد المنقسم على ذاته اي انها أساسا اختلاف وعن ملامح الكينونة عند هيدجر التي لا تتخذ سمة المدلول الميثافزيقى بل تبدو ذات بعد تاريخي ينمو بنمو هذا التاريخ نجد. ان هناك اشارات الى الانسحاب والنسيان كاشكال من اشكال الكينونة واشكاليتها ايضا. وهيدجر يعتبر تلك الكينونة لب الفكر ويصغى في بحثه عنها الى فلاسفة زامنوا بزوغ فجر الكينونة مثل انكسمندر وهيراكليت، برمنيد. فهي عند هيراكليت لها معادل ثلاثي هو : هبوط وزوال وتفتح، بروز ، تفريخ/ وافتفاء، احتجاب. وعند برميند فتتمثل في الحديث عن اشياء الطبيعة وتقول بالميلاد والزوال كصيرورة. ومن خلال هذه المساءلات يكشف لنا الكاتب علاقة هيدجر بالكينونة كونها مفهوما يخترق الارث الفلسفي من طرفه الى اقصاه. التفكيك والاختلاف وباسم الاختلاف يسوق المؤلف خطابا حول كتاب بعنوان (الصحافة - حب السينما - التلفزة) لصاحبه الهادي خليل، وهذا الفصل لا يفيد القارئ غير التونسي لانه يتصل بأعمال محلية ويتناول علاقة الصداقة بين بن عرفه وصاحب الكتاب المذكور ولذا لن نقف عنده للسبب السابق ولكونه لا يعطي ملامح مقنعة للعلاقة بين فكر الاختلاف والكتاب. بازولينى من الكتابة الى الترجمة ينقلنا ابن عرفه بتعريب مقاله عن بازلينى هي أشبه بدراسة عن الشخصية وابداعاتها كتبها عن سكاريتار وبرر ابن عرفه اختياره لها باشارة الى اهتمام بشخصية بازولينى من ناحية ومن ناحية اخرى كون النص يتعرض لجملة قضايا شبيهة الى حد التجانس بالقضايا الكبرى التي تسود المجتمع العربي وهذه القضايا هي: * مجتمع الاستهلاك التلفزة والامتثال الى البرنامج الموحد. * النقد الجذري للطليعة والنخبة المثقفة. * كيف نناضل ضد الخطابات الضارة التي تسود مجتمعاتنا. * قراءة التراث. * مستلزمات الاستراتيجية والتكتيك من وجهة نظر تحديثية. ان بازولينى يسلط الضوء على ما يدعى بالتقدمية معتبرا اياها لونا من ألوان الرجعية الجديدة والحقيقة الاولى لديه تتمثل في الحتمية القاضية بالعودة الى النضال ضد الفاشية الجديدة المتنكرة والتي يقبل بها الجميع وتتمثل في هذا المجتمع الاستهلاكي المتهافت على المتعة واللذة، وتلعب (التلفزة) دورا في ترسيخ هذه الممارسات باعتبارها وسيلة تكنولوجية تلعب دور الرحم في توحيد رؤى البشر فيصبح كل الناس مشاهدين ومستمعين للشيء نفسه وفي الوقت نفسه وعدم السماح لأي كان بأن يكون شاذا عن القاعدة القاضية بالامتثال الى البرنامج الموحد وهذا يعني نبذ التفرد والخصوصية. كما ان بازولينى في معرض اعماله ينتقد الطليعة المثقفة ويعرى اسطورتها كاشفا المحتوى الكاذب لتوريتها المزعومة. وينجذب بازولينى الى ما هو قديم ومهجور او ما يحلو له ان يسميه ب (التركة الرمزية للعالم الثالث) باعتباره هامشا بالنسبة للمركز اي العالم المعاصر. ولذا يتوجه بأعماله الى ثقافات الاقليات الريفية التي تعمل فاشية الاستهلاك على خنقها وحصارها. وثمة حقيقة لبازولينى تتمثل في الجانب الملفوظي، فالملفوظية عنده لها صبغة تكتيكية فهناك الكتابات النقدية والجدلية ثم كتابات التحدي والتربص والكتابات التقريرية وفن السير ضد التيار وهذه الملفوظية تنطوي على جانب فني وشعري وسينمائي. ان تناول الكاتب لهذه الدراسة عن بازولينى بالترجمة تأكيد لمفهوم الاختلاف الذي اختطه كمنهجية لكتابة الدال والاستبدال فبازوليني شخصية فنية مغايرة تتوخى الاختلاف بكل مضامينه.