كانت سنة 1934 م حبلى بكثير من الأحداث والتراكمات التي مهدت الطريق الى نشوب الحرب العالمية الثانية , الحرب التي فرخت كثيرا من المآسي والويلات ومن أبرز أحداث ذلك العام تسلم أدولف هتلر سدة الرايخ الألماني , وتعيين الدكتور جوزيف غلوبز مسؤولا عن المؤسسة الثقافية الإعلامية , أصبحت تحركات الفوهرر وخطبه وتصريحاته شغل الإعلام الشاغل آنذاك (لدي مجموعة من أعداد مجلة (لو) الفرنسية الصادرة عام 1934 م تعكس محتوياتها بالكلمة والصورة والكاريكاتور اجواء تلك الأيام المشحونة بالنزعات الشوفينية , وتمجيد القوة , وسيطرة الديكتاتوريات) يصور أحد تلك الرسوم الكاريكاتورية عام 1934 م على شكل رجل عسكري يحمل شارة الصليب المعقوف وهو يحاول إخراج عام 1914 من التابوت المسجى فيه بكامل لأمته الحربية , في إشارة الى قلق العالم آنذاك من نشوب حرب عالمية ثانية غير أن سنة 1914 لم تخرج من لحدها إلا في بداية 1939م. بدأ غوبلز يمارس مهماته الثقافية والإعلامية بكفاءة واقتدار , وللإنصاف فقد كان الرجل حاد الذكاء واسع الثقافة وخطيبا بليغا مفوها يجيد تحريك الشارع وتفجير عواطفه, وشحنه بنشوة المشاعر القومية , وقد استطاع أن يوظف ثقافته ومواهبه تلك لخدمة غايات الفوهرر وطموحاته. كانت الوزارة التي تسلم غوبلز سدتها تسمى (وزارة الدعاية وتنوير الشعب). أي إنها وزارة تعنى بصناعة الوعي وترويجه , أما الدعاية فيمكن فهمها وفهم وسائلها التي غالبا ما تميل للتهويل والتلميع والبهرجة وترويج الصالح والكاسد من السلع ومكيجة القبح أحيانا , وهو ما يفعله كثير من أرجوزات الدعاية في كل زمان ومكان , كانت الدعاية , إذن أقرب الى طبيعة ما كان يروج له غوبلز , أما التنوير فمسألة فيها نظر ذلك ان منطق التنوير منطق عقلي لا يراهن على العاطفة , ولا يتلاعب بالألفاظ . ولا يزيف الحقائق أو يخفيها وراء ستار من العبارات البليغة كما أن القيم العليا التي نادى بها فلاسفة التنوير تتعارض مع التصورات أو المنطلقات الشوفينية الضيقة , ويبدو أن اللافتة التي تزين مدخل الوزارة قد جردت مفردة (التنوير) من بعدها التاريخي والفلسفي على السواء غير أن الكلمات هي الاشواك المحيطة بالكرم كما يقال , وما أكثر ما تستخدم الكلمات لغير أغراضها الحقيقية , وما هو تنوير عند زيد من الناس قد يكون عمى وظلمة وتخلفا عند عمرو. كانت الثقافة التي روج لها غوبلز شوفينية تدعي الانتساب لحضارة متفوقة عرقيا , تمجد نفسها وتطل على العالم من عليائها بغطرسة , وترى أنها خلاصة الكون وجوهر الجوهر ثقافة تتخذ القوة والعنف وسيلة للتعبير عن الارادة ومن ثم فهي قوة مجردة من البعد الأخلاقي والنزعة الانسانية , أي انها حضارة بلا قلب , حيث الغاية تبرر الوسيلة وقد كان لذلك المنتج الثقافي وكما هي الحال في كل زمان ومكان مستهلكوه ووقوده في الوقت نفسه. إن العنف والدمار والخراب الذي هيأت له هذه الحقبة لم يكن وليد تنامي القوة وحسب بل كان حصيلة فكر يضيق برحابة العالم , وما أكثر ما يعيد التاريخ نفسه فتظهر تلك الأخلاق والأفكار والتوجهات والطموحات بصيغ وأشكال ووجوه متعددة , وتمتد بشكل أخطبوطي عبر التاريخ , ربما تختلف الاهداف والشعارات والبيئات والقوالب لكن النتائج واحدة , لذلك فإنه من غير الانصاف إلصاق تلك الرطانة العنصرية بالمانيا النازية وحدها دون سواها , فهي موجودة في كثير من الرطانات والتوجهات وإن ارتدت أقنعة مختلفة , كما أن ظل جوزيف غوبلز ساكن في كثير من العقول والأقلام بمختلف أطيافها الفكرية وإن ادعت التنوير. هنالك دائما دم أزرق يجري هنا وهناك وهنالك دائما فكر أزرق وبنفسجي يشير الى نفسه باعتباره جوهر الجوهر وخلاصة الخلاصة، فهو وحده ومن بعده الطوفان غير أنه لا توجد نزعة أو اتجاه على وجه الأرض إلا وتجد لها مطبلا ومزمرا وراقصا , وهكذا تغنى بعضهم بالقوة وأوهام المجد وبالفرد وإرادة الفرد التي هي فوق الجميع وتغنوا بالأرومة ونقاء العرق والدم الأزرق الذي يجري في عروق أفراد السلالة (علميا لا يجري الدم الأزرق إلا في خلايا سرطان البحر والحبار والأخطبوط , أما دم بعض الحشرات فهو بلا لون , وبعضها بلون أخضر فاتح). لكن في مقابل تلك الأصوات النشاز التي تساهم في تشييد أسوار العزلة وتصور العالم هرما يتربع فوق قمته جنس أو فكر فريد يحق له اخضاع الآخرين , ترتفع أصوات أخرى هنا وهناك تنادي بالأخوة البشرية , وهدم تلك الأسوار التي تتطاول يوما بعد آخر لتحول دون تقارب البشر , رغم تطور وسائل الاتصال , أصوات تتأمل العالم بمحبة , تبارك تنوعه , وتعشق كل ذلك التراث العالمي الذي هو حصيلة الجهد الانساني المشترك , وتعتبر المشاركة في بناء العالم واجبا وترى أنه إذا كان من الخير أن تتعارض الثقافات لتنتج توليفات جديدة تساهم في إثراء الثقافة الانسانية , فإن من الحماقة ان يصارع أو يصادر بعضها بعضا. أصوات تتساءل : ( لماذا نتحاقد؟ إننا متضامنون يحملنا كوكب واحد .. والانسان من غير انسان آخر ليس انسانا) بل دمية متحركة ضائعة. والقضية , كما يرى فرانسوا مورياك , هي إقامة جبهة (ثقافية) موحدة لتحرير البشر من هذا (المكيافيلي) الذي لا تتوقف حماقاته , المكيافيلي المتلبدة أدخنته في ملايين الضمائر , وبهذا يمكن الافلات مما يطلق عليه مورياك (قانون التناهش) وفي الوقت الذي يكرس غوبلز حديثه عن التنمية الاقتصادية والبشرية التي ستمنح الرايخ القوة يتساءل انطوان ده سانت أكزوبري في روايته الشهيرة (أرض البشر) قائلا: (ماذا تهمنا المذاهب السياسية التي تدعي إنماء الناس إذا لم نعرف أي نوع من الناس ستنمي) , أي ما أهداف تلك التنمية وما نتائجها؟ . وما تأثيرها على الأفراد . وإلى أين تقودهم؟ وهل هي وسيلة للتعايش أم للتناهش؟ وما قيمة تلك القوة؟ وهل ستسخر للبناء والتعمير أم للهدم والتدمير . وهي أسئلة مشروعة وصالحة للطرح في كل زمان ومكان.