@ أي حاضر ومستقبل ينتظر الأبناء المنسيين من قبل أسرهم ومدارسهم ومجتمعهم..! ألم يكف أنهم يعيشون وسط الحروب والقلاقل السياسية والعقد الاجتماعية, الفقر, البطالة التعليمية والمهنية, ومع ذلك يستمر مسلسل تجاهل وجودهم وهتك آدميتهم, وسحق براءتهم. دون ان يلوم الآباء أنفسهم قبل ان يلوموا غيرهم ويعترفوا بانهم لم يبذلوا الجهد المخلص لتحمل مسؤولية التربية والتوجيه والمتابعة ليبعدوا أبناءهم من الفراغ القاتل ومن سوء فهم المحيطين بهم ومن مغريات الحضارة المعاصرة بكل وسائلها وأدواتها المتاحة. ففي الدول المتقدمة يتم بناء شخصية الطفل منذ الصغر حتى تطمئن على مستقبلها لإدراكها ان الأجيال القادمة هي التي ستحمل مشعل المستقبل عن طريق تزويدها بأدوات المعرفة المتنوعة, ومنحها الاستقالية في الرأي وتوفير المناخ الاجتماعي والاقتصادي الجيد لها. ان اللغة التي تعتبر أساس الوعي والفكر والإدراك والمعرفة, وليست المعرفة هي ما تتلقاه الحواس من مشاعر وصور وإدراك وتوقع, لكنها ايضا وصف وتعبير وتسجيل هذه هي وظيفة اللغة. وهي وسيلة معطلة في الأسرة والمدرسة والمجتمع والإعلام بوسائله المختلفة لهذا تتعثر محاولة الأبناء في طلب المعرفة كعدم قدرتهم على التعبير مثلا. بينما الطفل في الدول المتقدمة يولد فيجد لغة والديه هي لغة كتابه المدرسي, يعرف كل شيء باسمه وبهذه اللغة يسأل ويشارك ويفهم الإجابة بها, وبذلك تنمو لغته وتتطور معه وبهذا تتحقق المعرفة والرابطة الوطنية. اما الأبناء في مجتمعنا فيجدون في البيت لغة؟ وفي الشارغ لغة؟ وفي المدرسة لغة او أكثر من خلال مناهجها التي تخاطبهم بأكثر من لغة أيضا كذلك المسجد والإعلام بوسائله المختلفة, مما جعل الأبناء لا يدرون كيف يسمون كثيرا من الأشياء؟ هل يسمونها باللغة العامية, ام بالفصحى؟ وان لم يجدوا لها اسما في لغتهم؟ هل يسمونها بلغتها الأصلية مثل (تلفجن تلفزة تلفزيون) وغير ذلك كثير مما أثر على وعيهم بذاتهم وبالآخرين من حولهم. @ ان المتأمل في التغيرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية في مجتمعنا يلحظ تغيرا جذريا في الكثير من القضايا فلم يعد أبناء اليوم هم أبناء الأمس, لم يعد وعي أبناء اليوم هو وعي أبناء الأمس فما كان مغيبا أصبح اليوم أكثر وضوحا وحضورا فيما يسمع ويشاهد ويكتب ويقرأ فليس هناك شيء ما يمكن اخفاؤه بشكل عام. ان الأسلوب الذي يتبعه الآباء في تربية الأبناء هو أسلوب خاطىء يقوم على العنف, والعنف المضاد كالاعتداء الجسدي والنفسي بحجة اصلاح الأخطاء مما زرع في نفوس الأبناء نزعة السيطرة والعنف وكانت النتيجة جيلا مشوه يسير بخطوات متهورة لاعتقاد الآباء ان الشدة والعنف هما أسهل الطرق لتحقيق الهدف دون ان يحاول الآباء التقرب من الأبناء والاستماع لمعاناتهم, وتفهم مراحل نموهم المختلفة التي يمر بها الأبناء في مرحلتي الطفولة والمراهقة لوضع الحلول الممكنة ليتجاوزوا أزماتهم النفسية او الاجتماعية او السلوكية. @ هذا التعامل مع الأبناء عن طريق وضع سياج من الرقابة المتشددة أو التساهل او التجاهل أفقد الأبناء مع مرور الوقت القدرة على اتخاذ القرارات الصائبة مع عدم قدرتهم على المواجهة في الظروف الصعبة مما أوقعهم في هوة الضعف والتردد والتي تضطرهم أحيانا الى اللجوء للعنف او التقوقع داخل الذات او التفكير في صمت دون تشجيع على معرفة ماهية الأشياء من حولهم او التعبير عن مكنونات نفوسهم بحرية وصدق مما جعلهم يبحثون عنها في وسائل أخرى. ثم يتعجب الآباء ويتساءلون لماذا ضاعت القيم الأخلاقية والاجتماعية عند التحدث عن الواقع المؤلم لما يسمعون ويشاهدون لما يحدث حولهم, فالصغير أصبح لا يحترم الكبير, الابن يعتدي على والديه, الطالب يعتدي على معلمه او زملائه او جيرانه دون ان يتساءل الآباء او البحث عن معنى يبرر هذه البشاعة التي يعيشها البعض والتي تزداد يوما بعد يوم على شكل ألفاظ وسلوكيات غريبة في المنزل, المدرسة, الشارع, المسجد, ووسائل الإعلام المختلفة, فأين هذه القيم في ظل التغيرات الحضارية التي سيطرت على ثقافة الأبناء وتفكيرهم وسلوكهم ومشاعرهم في ظل سيطرة العولمة وتأثيرها الثقافي والاجتماعي والديني من خلال الانفجار المعرفي عن طريق البث المباشر وشبكة الانترنت التي أصبحت خطرا حقيقيا يواجههم والآباء ما زالوا غير قادرين على التعامل مع الواقع لعدم قدرة الآباء الحاضرين والغائبين شكلا ومضمونا على السيطرة والتأثير في استقرار الأسرة, فألقى الآباء بالمسؤولية على الأمهات اللائي بدورهن أوكلن المسؤولية الى الخادمة والسائق فأصبح الآباء مجرد ممونين والأمهات مجرد أرحام للحمل والولادة, مما جعل الأبناء يعيشون حالة توهان وذوبان يصعب تجنب الوقوع فيها. @هؤلاء الأبناء الضحايا الذين تعرضوا للاهمال والحرمان بكل أشكاله وأنواعه؟ كيف نلومهم وهم يشاهدون سلوكيات تمارس على الفضائيات المباشرة يقابلها ازدواجية في السلوك والتعامل في المنزل والمدرسة والمسجد والمجتمع والإعلام بوسائله المختلفة؟ كيف نومهم والآباء يطالبونهم بان يكونوا نسخة منهم او بمعنى أكثر دقة (نسخة طبق الأصل او نسخة مستنسخة منهم) وكأن الحياة ثابتة لا تتطور ولا تتغير؟ كيف نلومهم مع انعدام لغة التخاطب والتحاور والاتصال المتبادل؟ كيف نلومهم وهم ينطبق عليهم قول الشاعر فاروق جويده: (لقد اختفت القدوة أمام الأجيال الجديدة سواء على مستوى الأسرة او المدرسة او الشارع او الإعلام والثقافة.. قد انهالت أكوام التراب على كل قيمة تاريخية وكل رمز عظيم). كل هذا يحدث والآباء غافلون عما يدور حولهم من تحديات التغيرات في العادات والقيم وأساليب التربية والتعليم, وخروج المرأة للعمل وما تبع ذلك من اهمال أسري واعتماد على الخادمة والسائق؟ بالاضافة لخطورة العولمة والتي أصبحت خطورة حقيقية وواقعية وملموسة لا يمكن تجاهلها او إنكارها من خلال ما تضعه الدول المتقدمة من قوانين عجيبة للعلاقات في المستقبل والتي تقوم على: @ أنا أملك.. وأنت لا تملك. @ أنا الأقوى.. وأنت الاضعف. @ أنا أعرف.. وأنت لا تعرف. ودليل ذلك ما كتب على لافتة من الرخام في مدخل وكالة المخابرات الأمريكية C.I.A (لا بد من ان نعرف كل شيء.. فاذا عرفنا كل شيء سننتصر) والنتيجة ان تسمع كلامي وتتبعني.. هذه هي خلاصة فلسفة العصر الذي نعيشه, عصر العلم والمعرفة فبقدر ما تعرف تتقدم وتنتصر, وقد يقول قائل: اننا نعرف الكثير, وإننا مجتمع مسلم له تاريخ وحضارة؟ بينما الواقع يقول: اننا نعرف كثيرا عن الأشياء غير الهامة ومعرفتنا كلها تتعلق بتمجيد الماضي المشرق لمن سبقنا..؟ أما معرفة العصر وواقعه فنحن فقراء وعلى الأكثر نشتري المعرفة الجاهزة او تطبيقاتها فنحن نشتري الحاسوب او الجوال ولا نعرف التعامل معه إلا في الحدود الضيقة وان تعاملنا معه ففي الأشياء السلبية كما يحدث مع الجوال او مع شبكة الانترنت حتى لقد أصبحت لدينا قناعة شبه تامة تقول: (لماذا نتعب ونشقى ونخترع ما دام هناك من يخترعون ويشقون نيابة عنا). @ ان التعامل مع الأبناء يجب ان يبنى على قاعدة الاحترام المتبادل بطريقة يحترم فيها الآباء حق الأبناء في الاختلاف وإبداء الرأي لاشباع حاجاتهم المختلفة وليس بالرهبة والخوف, مما يتطلب حكمة ورجاحة عقل وتفكير فالأبناء لا يريدون آباء بالهوية بل آباء وأصدقاء, لقد حدد ديننا الحنيف الكثير من أسس التعامل مع الأبناء على أنهم فكر وليس بدنا فقط, وللآباء في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة فما كان أحد أرحم بالأطفال منه, فقد كان يداعب الحسن والحسين رضي الله عنهما حتى وهو ساجد لرب العالمين. قال معاوية ابن الحكم: (فبأبي هو وأمي ما رأيت قبله ولا بعده.. أحسن تعليما منه فوالله ما نهرني .. ولا ضربني.. ولا شتمني). فهل أدرك الآباء أين يقفون؟ وماذا يفعلون لتفعيل قيم الخير والحب والعدل من خلال اعادة تنظيم أساليب التربية الأخلاقية والاجتماعية مع بذل الجهد المخلص والجاد لتصحيح الأوضاع وعدم التذرع بالحاجة الى اجراء قانوني فالأسرة هي صاحبة القرار أولا وبعض مؤسسات المجتمع ذات العلاقة ثانيا للقيام بدورهم المتمثل في: @ اعادة تنمية الوعي الديني بقيام الأسرة والمدرسة والمجتمع والمسجد والإعلام بوسائله المختلفة بدورهم. @ تأصيل مفهوم الانتماء والوطنية بالبحث عن رؤية جديدة ووسائل واضحة تتناسب وظروف العصر. @ توفير البيئة الملائمة لتطوير الشخصية واشباع الحاجات بتطوير الفكر والوعي والمعرفة والإبداع والاستقلال الذاتي. @ التحضير كل مرحلة من مراحل النمو بتعهد الجوانب المختفة لهذه التغيرات وبإشباع حاجات ومطالب كل مرحلة. @ إقامة لجان لحماية الأبناء الذي يتعرضون للاعتداءات والإيذاء الجسدي او النفسي داخل الأسرة وخارجها. @ وضع برامج متابعة لتعديل السلوك الشاذ مع انشاء نواد للاحياء لنشر الثقافة التربوية والاجتماعية والصحية والأسرية. @ توفير البدائل المناسبة من قبل الآباء لجعل ابنائهم معهم لا ضدهم حتى لا يشعر الأبناء بالاغتراب في ثقافتهم وينظروا لآبائهم وكأنهم قادمون من كوكب آخر. @ مساهمة الإعلام بوسائله المختلفة من خلال أقامة برامج تربوية تثقيفية ترفيهية توضح للأسرة السبل التربوية الملائمة لتربية الأبناء ورعايتهم. @ إن مراجعة النفس ومحاسبتها أمر مطلوب لتعديل الأخطاء وتصويب المسار وهذا يحتاج ان نتعلم النقد الهادف والبناء وقبوله بصدور رحبة وعقول متفتحة كما نحتاج لكثير من الجهد والعمل الجاد والمخلص والشجاعة التي تؤدي الى الاعتراف بالخطأ والتقصير متى ما ظهر ذلك. فكلنا خطاؤون وخير الخطائين التوابون, فما اعظمك ياعمر.. وما أشجعك, وما أعدلك حينما قلت: (أصابت امرأة وأخطأ عمر). @ همسة: الجدية في التعامل مع المشكلات التي تواجه المجتمع تتطلب ممن يتحمل المسؤولية ان يكون قادرا على تحملها. وفق الله الجميع لما فيه الخير والصلاح والله الهادي الى سواء السبيل عبدالله بن علي بن حسن الأنسي محاضر بقسم التربية وعلم النفس كلية المعلمين الطائف