الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن الملا احد رواد العلم والثقافة بالمنطقة الشرقية وينحدر من اسرة عريقة من محافظة الاحساء لها دور كبير في تاريخ المحافظة القديم والحديث.. ورغم محاولات عدة جهات إعلامية وصحفية الظفر بحديث مع الشيخ الجليل الا ان تواضعه الجم وعلمه الفياض كانا يجعلاه يعتذر مؤمنا بأن دوره مهما قدره وعظمه الآخرون يبقى بسيطا رافضا ومعتزلا اي اضواء اعلامية.. ولكن معارف الشيخ وتلاميذه واقاربه واحاديثهم عن مناقبه وشغفه بالعلوم وشتى المعارف وصفاته الانسانية النادرة جعلت (اليوم) تخصص هذه المساحة لتعريف الاجيال التي لم تعاصر الشيخ الملا باحد رواد المعرفة في بلادهم.. ولان صحة الشيخ في الوقت الحالي - امد الله في عمره - لا تسمح له باجراء حوار كما نتمنى فقد حصلت (اليوم) على جانب من مذكرات دونها الشيخ وهي المصنف الوحيد الذي خطه يراع الشيخ عن ذكرياته في رحلته للدراسة بالخارج وهي عبارة عن وثيقة تاريخية لها قيمة علمية في تفسير شخصية هذا العالم وتسلط جانبا من الضوء على احد الكنوز الثقافية بالمحافظة والدور الريادي لها في دعم الحركة التعليمية والثقافية والادبية بالاضافة الى تواصله التاريخي والاجتماعي مع عدة اجيال معاصرة من خلال مكتبة التعاون التي اسسها الشيخ لتبقى معلما بارزا بالاحساء.. (اليوم) تنشر تلك السطور من مذكرات الشيخ ليتخذها عاشقو العلم والمعرفة نبراسا لهم وهاديا ودليلا على ارادة الرواد الاوائل وسعيهم الدؤوب للتزود بالعلم. بدأت في مسودة الرحلة في عام 1943م. الاسم: عبدالله عبدالرحمن الملا, من مواليد عام 1335ه تقريبا. بدأت اول دراستي في طلب العلم على بعض الفضلاء من علماء الاحساء, منهم الشيخ عبدالعزيز بن عمر بن العكاس وهو اكثرهم في ملازمتي له واستفادتي منه, والشيخ احمد بن الشيخ عبداللطيف الملا, والشيخ عبدالعزيز بن صالح العلجي, والشيخ احمد العلي العرفج, والشيخ عبدالعزيز العبيدالله غفر الله لهم واجزل ثوابهم. بداية الرحلة ثم سافرت الى الهند وعمري سبع عشرة سنة في اول شهر شوال عام 1353ه لاكمال دراستي هناك وكان السبب لاختيار الهند هو انه قدم الى الاحساء عالم فاضل من علماء الهند قاصدا الحجاز لاداء فريضة الحج وسكن فترة من الزمن في رباط الشيخ ابي بكر الملا, وكنت انا قد اتخذت حجرة في الرباط للمذاكرة وكنت على اتصال بهذا العالم, ويدعي الشيخ محمد حسين الدهلوي, وكنت اناقشه واستفيد منه في بعض المسائل التي واجهتني اثناء دراستي والتي استعصى علي فهمها فهما عقليا, لا سيما المسائل التي لها علاقة بعلم المنطق, فنصحني هذا العالم الجليل - جزاه الله عني افضل الجزاء - بالسفر الى الهند لتلقي العلوم هناك في جامعاتها, وخص جامعة دار العلوم في مدينة ديوبند, بعد ان اعطاني فكرة واضحة عن الدراسة هناك ثم اقترح علي ان ابعث رسالة الى مدير الجامعة تتضمن جميع الاسئلة التي تهمني معرفتها والاجابة عنها, واكد لي ان مديرها سيرسل الجواب واعطاني عنوان الجامعة, كما اعطاني عنوانه في مدينة دلهي, وطلب مني زيارته في حالة سفري الى هناك وكنت قبل قدوم هذا الشيخ الهندي افكر في السفر الى الحجاز لتلقي العلم هناك, ولكن هذا الشيخ شجعني على السفر الى الهند وجعلني اتقبل نصيحته. وقد كتبت الرسالة وضمنتها كل ما يهمني معرفته واعطيتها الشيخ ابا بكر الملا - رحمه الله - ليرسلها الى محلات العجاجي بالبحرين لترسل بالبريد من هناك الى الهند, وليرسل الجواب عن طريق بريد البحرين بواسطة هذا المكتب وبعد مضي عشرين يوما تقريبا وصلتني الرسالة الجوابية من مدير الجامعة, وهي تتضمن الاجابة عن جميع الاسئلة, كما تتضمن ترحيبا حارا بقبولي في الجامعة, مما شجعني لتوطيد العزم على الرحلة الى الهند. وقبل سفري الى البحرين بعثت رسالة الى صديق لي في بمباي هو الاخ عبدالله بن محمد الشعوان, وكان زميلا لي في الدراسة عند الشيخ عبدالعزيز العلجي, وقد سافر الى بمباي قبل سفري, وكان قد بعث لي رسالة من هناك واخبرني عن عنوانه ومقره, وقد اخبرته في رسالتي عن عزمي على التوجه الى الهند للدراسة هناك. باخرة ثم توجهت الى البحرين في آخر شهر رمضان المبارك عام 1353ه ولم يوجد في البحرين حينذاك رحلات جوية الى الهند, فتقرر السفر في الباخرة في اوائل شهر شوال ولم اتذكر بالضبط اليوم الذي سافرت فيه الباخرة من البحرين ولكن في الاغلب في اوائل شهر شوال 1353 وقد طلب مني واشار علي بعض الاخوان في البحرين ان اؤجل السفر حتى اجد لي رفيقا في السفر, ولكني صممت على ان اسافر في اول باخرة تغادر البحرين بعد رمضان مهما كانت الصعوبات, لان فتح الجامعة وبدء الدراسة في اول شهر ذي القعدة, وكنت كما يقول الشاعر العربي: ومن تكن العلياء همة نفسه فكل الذي يلقاه فيها محبب وقد استعنت في البحرين عند سفري برجل من اهل المبرزبالاحساء, كان مقيما في البحرين عند السيد احمد بن عبدالرحمن الهاشم امام مسجد سوق الطواويش نائبا عن والده السيد عبدالرحمن وكان ذلك الشخص له خبرة طويلة في السفر بالبواخر, وطلبت منه ان يساعدني ويحضر لي ما يحتاج له المسافر, وان يرافقني في طريقي الى الباخرة, ويختار لي المكان المناسب فيها وقد قام بالواجب حتى ودعني, وبعدما فارقني ورجع بنصف ساعة تقريبا انطلق من الباخرة صوت قوي ايذانا بالابحار, وتحركت الباخرة فوقفت في مؤخرتها انظر الى ميناء البحرين ومبانيها, ولما تذكرت فراق الاهل والاصحاب شعرت بالكآبة والحزن ومرارة الفراق, فجلست امام امتعتي واخرجت كتابا من صندوق عندي لاتسلى بالقراءة فيه, وبينما كنت اطالع في الكتاب اذ اقبل رجل عربي من ركاب الباخرة ووقف امامي وسلم علي وصافحني وقال لي: الشيخ منصور بن حرز يدعوك الى مكانه, فذهبت معه الى مكان الشيخ منصور, وهو ليس بعيدا عن المكان الذي انا فيه, ولما وصلت الى محله قام ورحب بي ترحيبا حارا واجلسني قريبا منه, وبدأ يسالني عن بلدي الاحساء, ثم تبادلنا اطراف الحديث في الشعر والادب, وكانت لديه مجموعة من الكتب مما يدل على انه طالب علم واديب, والشيخ منصور متصف بكثير من الاخلاق الفاضلة, وهو يمارس تجارة اللؤلؤ ويشتريه من الغواصين في البحرين ويسوقه في الهند, ويرافقه في السفر كمساعد له شخص اسمه عبدالوهاب الجمعان من سكان المحرق, وقد طلب مني ان انتقل الى محله ولكني اعتذرت منه وشكرته وقلت له ان المحل الذي انا فيه قريب منكم وساقضي سائر اوقاتي معكم ما عدا وقت النوم, وكان جل اوقاتي في هذه الرحلة اقضيه معهم في قراءة الكتب ومناقشة بعض الموضوعات. والحقيقة انني انست وشعرت بالراحة التامة مع هؤلاء الرفقة الطيبين مما جعل هذه الرحلة الطويلة التي كانت ثلاثة عشر يوما تمر وكأنها يوم وليلة, وهذا من فضل الله سبحانه وتوفيقه. وكانت هذه الباخرة ترسو وتمكث بضع ساعات في كل ميناء من موانئ الخليج العربي لتفرغ بعض البضائع التجارية من حمولتها, وكان في فترة اقامتها في الميناء يقام في وسط الباخرة من الداخل سوق تعرض فيه الفواكه والخضراوات وبعض المأكولات الشهية من انتاج ذلك البلد, وكنا نتجول في كل سوق ونشتري ما نحتاج اليه. ولما وصلنا الى ميناء مدينة كراتشي وهي اول مدينة من مدن الهند قبل استقلال باكستان عنها وليس بعد هذا الميناء الا ميناء مدينة بمباي وكان الوقت صباحا وكانت الباخرة تمكث في هذا الميناء عادة يوما كاملا, والباخرة رست في هذا الميناء ملاصقة للرصيف بحيث ينزل المسافرون في الميناء مباشرة دون واسطة الزوارق التي تنقل المسافرين عادة من الباخرة الى الميناء وكان بعض المسافرين ينزلون في كراجي للفسحة والتجول في المدينة الى وقت العصر, وكان الشيخ منصور قد اراد ان ينزل مع رفيقه وطلب مني ان ارافقهم لقضاء بعض الوقت فوافقت, ولكني اخبرته اني ارغب في الاتصال من كراجي الى بمباي لاخبر احد اصدقائي هناك بقدومي وهو الاخ عبدالله الشعوان - وهو الذي اشرت اليه في اول هذه الرحلة - كي يستقبلني في ميناء بمباي, وليس لدي سوى عنوانه في الرسالة التي بعثها الي في الاحساء, ويمكن ان ابعث له برقية من كراجي على هذا العنوان. فقال الشيخ منصور: اذا كان الغرض من الاتصال هو ما ذكرت فهذا شيء لا اوافق عليه, ولا يمكن لانه عندنا مكان خاص في بمباي, وستكون معنا حتى تسافر الى الجامعة, وبالنسبة لجماعتك اهل الاحساء, فانا اعرف الحارة التي يسكنون فيها, وسأذهب معك لزيارتهم, فقلت له: انا اشكرك ولكني اعرف اخواننا اهالي الاحساء.. سوف لايقبلون الا ان اسكن عندهم, ولكني اوافق ان يكون اول نزولي في بمباي عندك, فقال انا اسمح بذلك, والآن ننزل في كراجي, فنزلت معهم وتجولنا في بعض المحلات وذهبنا الى حديقة هناك وتناولنا الغداء في احد المطاعم ثم رجعنا الى الباخرة. عروس الهند وقد غادرت الباخرة ميناء كراجي ليلا, وفي عصر اليوم الثاني رست الباخرة في ميناء بمباي, وكانت في هذا الميناء بعيدة عن الرصيف, وكان الركاب ينزلون في الزوارق البخارية الصغيرة لقد كان شهر شوال من كل عام يعتبر موسما لتسويق اللؤلؤ في مدينة بمباي الهندية, وكان بعض اثرياء اوروبا يفدون الى بمباي لهذا الغرض وقد كانت بمباي في ذلك العهد - اي عهد الاستعمار البريطاني - تسمى عروس الهند, فكانت المباني الفخمة ونظافة الشوارع وتنظيم السير والمرور, لانها تعتبر اكبر مركز تجارة في الهند, وكانت غاصة بالسكان وكان تجار اللؤلؤ في البحرين يتجهون الى بمباي في هذا الموسم لتسويقه, وكان بعض العرب المقيمين في بمباي وغيرهم ممن يجيد اللغة الانكليزية والهندية يمارسون السمسرة ليكونوا وسطاء بين الباعة من اهل البحرين والاجانب من الغربيين وكانوا يراقبون اي باخرة تقدم من البحرين الى بمباي في هذا الموسم. وكان ممن يمارس هذه المهنة من اهالي الاحساء علي الماجد وكانت المفاجأة والصدفة بالنسبة لي هي ان اول زورق يأتي من ميناء بمباي الى الباخرة ليحمل المسافرين, فيه جماعة من هؤلاء السماسرة وكان من بينهم الاخ علي الماجد وهو لا يعرفني الا من زميله عبدالله الشعوان, وما ان ابصراني في الباخرة حتى وثبا الى وعانقاني وسألا عن عفشي فتصدى لهم الشيخ منصور وقال: هذا سيكون ضيفي ولا اسمح لكم بأخذه! فقالوا له لا تجادل ولا يعقل هذا, واخبرنا عن عنوانك في بمباي وسيزورك ان شاء الله, واخذاني الى الزورق, وبعد ان نزلنا على رصيف الميناء اخذا عربة وركبنا فيها - وكان في ذلك العهد الركوب في العربات اشرف من السيارات - الى سكن الاخ علي الماجد, ولما علم اخواننا من اهل الاحساء واهل الكوت بوصولي قدموا للسلام علي, وفي مقدمتهم الشيخ احمد بن محمد الجغيمان امام احد المساجد هناك والسيد عبدالله بن هاشم الهاشم, وقد طلب الشيخ احمد الجغيمان من الاخ علي الماجد ان تكون اقامتي عنده والح في ذلك, ولكن الاخ علي رفض, وقد انست بالجماعة كلهم, ورأيت منهم كل حفاوة وتكريم, وقد مكثت في بمباي اسبوعا تقريبا. وكأني اعيش في وطني بين اهلي وعشيرتي. اما الاخ علي الماجد فهو شاب مثقف وطني مخلص, تلقى علومه في احدى المدارس العصرية التي انشأتها الحكومة البريطانية في بمباي, واتقن اللغة الانكليزية, وكان - جزاه الله عني افضل الجزاء - مشجعا لي مهتما بموضوع سفري من بمباي الى الجامعة اهتماما كبيرا, فقد ذهب الى محطة القطار واشترى كتيبا صغيرا يسمى دليل القطارات يوضح فيه اسماء المدن, واسماء المحلات التي يقف فيها ومدة الوقوف, والمدن التي يبدل فيها القطار, والمسافات والاجور, والدليل مكتوب باللغتين الهندية والانكليزية. وقد لاحظ الاخ علي ان مدينة ديوبند التي فيها الجامعة بعيدة, وفي قلب الهند وانه يوجد قطار من بمباي الى ديوبند, وان بعض القطارات تبدل في المحطات الكبيرة مثل مدينة دلهي وغيرها, والانتقال من قطار الى قطار بالنسبة لي, وانا لا افهم اللغة, صعب جدا, الا اذا وجد رفيق معي مسافر الى ذلك البلد, ولكن الاخ علي الماجد له معارف من الهنود, فكان يسأل عن جامعة دار العلوم وعما اذا كان يجد رفيقا لي في السفر الى هناك؟ فاخبروه بأنه يوجد فرع لدار العلوم لا يبعد عن بمباي اكثر من 150ميلا يسمى الجامعة الاسلامية, ولهذا الفرع مكتب في بمباي, ويوجد فيه مندوب او وكيل لهذه الجامعة, واخبروه عن عنوانه, فذهب الى هذا المكتب وشرح له الموضوع فوصف له المندوب موقع الجامعة الاسلامية واخبره ان فيها نخبة من كبار علماء ديوبند, ومن اساتذة دار العلوم, وقال المندوب انه سيتوجه بعد اربعة ايام الى بلده وهي مجاورة للجامعة ومستعد لأن يصحبني برفقته ويوصلني الى الجامعة فاتفق الاخ علي معه على الموعد المحدد للحضور في محطة القطار وكنت - نظرا لهذه الظروف الصعبة في الذهاب الى دار العلوم - قررت ان اقضي هذه السنة دراستي في الجامعة الاسلامية ثم بعدها اتوجه الى دار العلوم, وفي الموعد المقرر للسفر من بمباي ذهبت مع الاخ علي وبعض الاصحاب الى محطة القطار, والتقينا بالمندوب وسافرت برفقته, واستمرت الرحلة في حدود ثلاث ساعات, وبعد وصول القطار المحطة نزلنا, واخذ المندوب سيارة اجرة, وبعد ان وصلنا الى باب الجامعة وقفت السيارة, واستدعى المندوب احد الموظفين وتوجه الى بلدته وهي لا تبعد عن الجامعة في السيارة اكثر من عشر دقائق. وقد ذهبت مع الشخص الذي استدعاه المندوب الى المسؤول عن شؤون الطلاب الجدد, وقد رحب بي بكل تقدير واحترام فسجل اسمي واعطى المرافق معي اشعارا الى المسؤول عن السكن وغيره, وقد ذهب معنا هذا المسؤول الى الحجرة التي اسكن فيها مع زميل هندي, وكانت الجامعة تقوم بجميع المصاريف من السكن والطعام والكتب المقرر تدريسها وغيرها. وفي اليوم التالي ذهبت مع احد الطلاب الى المسؤول عن اختبارات الطلاب الجدد لتقرير الكتب والعلوم المناسبة على ضوء مؤهلاتهم. وقد رحب بي وسألني عن بلادي والكتب التي درستها في بلادي, ولم يناقشني في شيء منها, وكان يكلمني بكل لطف وادب وتقدير. ثم اعطاني اشعارا الى دار الكتب لاستلام الكتب التي احتاج اليها, كما اعطاني جدولا بمواعيد الحضور واسماء الاساتذة الذين يقومون بتدريس هذه الكتب. والعلوم التي حصل لي مشاركة فيها من هذه العلوم: من علوم العربية: علم النحو والصرف وعلوم البلاغة. ومن العلوم الدينية: الفقه واصول الفقه وعلم المنطق. وكان من ابرز العلماء الذين تعرفت عليهم في هذه الجامعة وكان لي بهم اتصال وصداقة خارج الدوام, ودراسة خارج الدوام, لما رأيته منهما من عطف ورعاية: هما العلامة الشيخ محمد بدر العالم, والشيخ محمد يوسف البنوري غفر الله لهما وجزاهما عني افضل الجزاء. وهناك في الجامعة التقيت باحد الطلاب وكان ينوي السفر الى دار العلوم فكان لي رفيقا في السفر وتوجهنا بالقطار الى ديوبند, وقد استغرقت الرحلة من الجامعة الاسلامية الى دار العلوم حوالي يوم وليلة, لان القطار يقف في عدة مدن وكانت اكبر مدينة من هذه المدن: مدينة دلهي فقد نزلنا من القطار الى قطار آخر يتجه الى مدينة ديوبند التي فيها دار العلوم. ودلهي ملتقى السكك الحديدية حيث تستبدل فيها القطارات وتزود بالوقود. وبعد ركوبنا في القطار الآخر توجهنا الى ديوبند والمسافة لا تزيد على ثلاث ساعات تقريبا, وبعد وصولنا المحطة اخذنا عربة الى دار العلوم, وموقع الجامعة في وسط البلد, والجامعة كبيرة, وهي تعج بالطلاب لانها تعتبر اكبر جامعة في الهند, وفيها من جميع الاجناس: من الهند والسند وافغانستان واندونيسيا وغيرها ولم اجد فيها الا عربيا واحدا من العراق. ترحيب وبعد وصولي الى الجامعة راجعت المكتب الخاص بشؤون الطلبة المستجدين للحصول على السكن وبعض الاجراءات اللازمة, وقد لاحظت انهم يولون الطالب العربي اهتماما وتقديرا خاصا وبعد حصولي على السكن توجهت الى مكتب المدير للسلام عليه, فرحب بي ترحيبا حارا ثم اطلعته على رسالتهم التي وصلتني في بلادي من الجامعة, وهي الرسالة الجوابية لرسالتي التي بعثتها للجامعة للاستفسار عن منهج الدراسة وعن امور اخرى, فسر بذلك وتحدث كثيرا وشجعني على مواصلة الدراسة, واظهر استعداده لاي طلب, واراد ان اخبره عن اي مضايقات احس بها, فشكرته وودعته ومدير الجامعة هذا اسمه الشيخ محمد طيب, وهو عالم فاضل متصف بالتواضع وكثير من الاخلاق الفاضلة. ثم اني وجدت مضايقة, فقد كان السكن غير مريح فهو عبارة عن حجرة كبيرة يسكنها ثلاثة من الطلاب, وكل واحد من منطقة وتختلف لغاتهم, فنصحني طالب من اهل ديوبند بأن اقدم رسالة للمدير لاستبدال هذا السكن وكانت العادة في هذه الجامعة ان اتصال الطلاب بمدير الجامعة يتم عن طريق الكتابة, فالطلبات والشكاوى وغيرها توضع في رسائل وتوضع في صناديق تشبه صناديق البريد ويجلس اصحابها في صالة كبيرة امام مكتب المدير في انتظار دعوة المدير بين الآونة والاخرى وهناك موظف خاص ينقلها من الصناديق الى مكتب المدير. فكتبت رسالة الى مدير الجامعة, فقال لي المدير: انا مستعد ان اخذ لك سكنا بالايجار, ولكني اخشى الا ترتاح خارج الجامعة, ولكن لو تصبر ابحث لك عن محل مريح, وكان السكن في الجامعة الاسلامية التي كنت فيها سابقا نظيفا, وكل الحجرات التي فيها في طابق واحد, ولا يسكن فيها اكثر من اثنين لان الجامعة جديدة وحديثة العهد. اما دار العلوم فانها بالنظر الى قدمها ليست بمستوى تلك الجامعة ولذلك فقد ضايقني السكن فالحجرات ليست على هيئة واحدة بل فيها الصغير وفيها الكبير. قاعات التدريس وبعد يومين تقريبا استدعاني المدير وقال لي: لقد حصلنا لك على حجرة داخل الجامعة لا يسكنها الا طالب واحد من اهل دلهي من اسرة كريمة, وهو شخص مهذب الاخلاق وسيتخرج من الجامعة في آخر هذا العام, وينوي بعد تخرجه السفر الى مصر للتخصص في اللغة العربية في الازهر الشريف, وسيكون مرتاحا بوجودك معه في السكن, وسيساعدك في الدراسة وستكون مسرورا منه, فشكرت مدير الجامعة على ما شملني من عطفه ورعايته الكريمة فجزاه الله عني افضل الجزاء, ثم نقلت عفشي من السكن السابق الى السكن الجديد. وفي الواقع ان هذا السكن مريح جدا ومفروش باثاث ممتاز من قبل الشخص الدهلوي, وهذا الشخص كما ذكر لي المدير رجل مثالي في الاخلاق وكرم النفس. والحقيقة انه بعد انتقالي شعرت بالراحة التامة, ويسمى هذا الزميل مولوي محمد ادريس الدهلوي, وقد ساعدني في تحضير الكتب المقررة والتعرف على بعض الاساتذة مما جعلني احظى ببعض الدروس الخاصة من بعض الاساتذة خارج الدوام, وكان له صديق حميم ممن يسكن في هذا البلد وهو طالب في هذه الجامعة, وكان دائما معنا, ويزورنا في كل يوم, وكان يرافقنا عندما نرغب في التجول خارج الدوام في اطراف البلد اسواقها وقد دعاني الى منزله مع صديقنا الدهلوي عدة مرات, وهو ايضا شخص مهذب ومتصف بكثير من الاخلاق الفاضلة. وبعد ان حصلت على الكتب المقررة بدأت في الدراسة, وكان من ابرز هذه الكتب المقررة: تفسير الجلالين ومشكاة المصابيح في الحديث وشرح العقائد النسفية في التوحيد, وشرح الهداية في الفقه الحنفي وشرح كافية ابن الحاجب في علم النحو, ومختصر المعاني شرح التلخيص في علم البلاغة, وشرح تهذيب المنطق.. والكتب كلها باللغة العربية, مطبوعة في الهند ومجلدة وكانت العادة المتبعة في الجامعات العربية في الهند ان توضع في قاعة التدريس طاولات مستطيلة مرتفعة قليلا عن الارض, وتوضع عليها كتب الطلاب وهم جلوس على الارض, اذ ليس في قاعات التدريس كراس بل تكون مفروشة بالسجاد, والكتب المقررة توزع مجانا على الطلاب, وبعد الاستغناء عنها تسحب منهم, والجامعة تقوم بتكاليف المعيشة من السكن والطعام حيث تقدم للطالب وجبتين في اليوم: الغداء والعشاء. اما الفواكه والخضار وانواع الاطعمة والخبز والحليب وغيرها فهي متوافرة وتباع بقيم زهيدة هناك. وكان علماء ديوبند ينتهجون منهج السلف الصالح في التواضع والتقوى والتقشف ومكارم الاخلاق, وقد دعاني مدير الجامعة الفاضل الشيخ محمد طيب في اول وصولي الى منزله اكرم الله مثواه وجزاه عني افضل الجزاء ثم اني واصلت الدراسة حتى شهر رجب عام 1356ه ثم توجهت الى الاحساء وباشرت العمل في التدريس عام 1357ه ما ينيف على الثلاث سنين اي حتى عام 1360ه ومن ابرز الطلبة الذين تخرجوا في ذلك العهد سمو الأمير محمد بن فهد الجلوي وحسن المشاري وفارس الحامد وعبدالمحسن المنقور وعبدالله بن عبدالرحمن الشعيبي والسيد ابراهيم بن السيد عبدالله الهاشم. وقد فضلت العمل الحر على ان يكون هذا العمل له صلة بالعلم والمعرفة. مكتبة التعاون ويحدثنا عبدالرحيم محمد سعيد برمو عن مكتبة التعاون الثقافي واثرها في تاريخ الاحساء الحديث حيث يقول: ان الدارس لتاريخ الاحساء العلمي والحضاري الحديث لابد ان تستوقفه مكتبة التعاون الثقافي التي كان لها دور ايجابي وفاعل في نشر العلوم والمعرفة وتثقيف الشباب وبث الوعي فيهم منذ وقت مبكر, صحيح انها مكتبة تجارية خاصة, الا انها اسست على التقوى من اول يوم, فلم يكن هدف مؤسسها الربح المادي اطلاقا, ولم يكن هذا في حسبانه يوما ما, اذ كيف يبتغي الربح من بضاعة ليس لها شريحة واسعة من الزبائن فتبشر بربح مادي وفير؟ ام كيف يبتغي الربح من بضاعة عششت العناكب في جنباتها ونسجت خيوطها حولها وعلتها طبقة من الغبار كل ذلك بسبب بعد الناس وهجرهم للثقافة والعلم؟ ولكن المؤسس اتبع المثل القائل: خير من ان تلعن الظلام ان توقد شمعة, فكانت هذه المكتبة بحق لا شمعة فحسب بل قنديل جميل يشع نورا كأنه كوكب دري يوقد من شجرة مباركة. انها ليست مكتبة تجارية فقط, ولكنها مدرسة اصلاحية تربوية خرجت جيلا من الشباب المسلم المثقف الذي يمثل الجيل الاصلاحي المنفتح ويتبنى مشروع الفقه الحضاري والحوار مع الآخر من امثال الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل اسماعيل مدير اوقاف الاحساء, والدكتور محمد بن عبداللطيف الملحم الوزير المعروف وصاحب المؤلفات القيمة, والشيخ المؤرخ عبدالرحمن بن عثمان الملا صاحب (تاريخ هجر), والشيخ جواد الرمضان صاحب (مطلع البدرين) وغيرهم من العلماء والادباء والشعراء الذين يصعب علي سرد اسمائهم لضيق المجال المتاح. هؤلاء الذين كانوا يتخذون من جنبات المكتبة المتواضعة منتديات حوار وثقافة وتبادل آراء ونقد علمي هادف وهادئ, ومنذ كانوا صغارا كانت المكتبة لهم اما رؤوما رضعوا من لبانها, وترعرعوا في احضانها, فلما كبروا وتقلدوا المناصب والاعمال ظلوا اوفياء لها ولم ينسوا فضلها فتراهم يثنون عليها بالخير, ويترددون عليها بين الفينة والاخرى لا لابتغاء شراء شيء منها فحسب بل لمجرد الزيارة وفاء وعرفانا. اول مكتبة تجارية في عام 1368ه الموافق لعام 1945م قام الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن الملا الفقيه والاديب المعروف بتأسيس اول مكتبة تجارية خاصة في محافظة الاحساء, وبقيت المكتبة منذ ذلك التاريخ والى يومنا هذا اي زهاء خمس وخمسين سنة مصدر اشعاع علمي ثري, ومنارة ثقافية ورمزا حضاريا تفتخر به محافظة الاحساء. في بداية الامر كانت المكتبة عبارة عن دكان صغير في المداخل الاولية لسوق القيصرية القديم بمساحة لا تتجاوز ثلاثة امتار طولا في مترين عمقا, ثم انتقلت المكتبة الى دكان اوسع داخل مجمع القيصرية نفسه. وبعد ان انشأت بلدية الاحساء في بداية السبعينات دكاكين جديدة محاذية لسور الكوت, انتقلت المكتبة الى احد هذه الدكاكين, ثم انشطرت الى قسمين: قسم القرطاسية وبقي محافظا على موقعه الكائن في دكاكين البلدية مقابل القيصرية, وقسم الكتب الذي انتقل الى عمق حي الكوت, والمحل الجديد عبارة عن جزء من بيت المؤسس. وقد ضمت المكتبة امهات كتب الدين والادب والتاريخ والجغرافيا والعلوم بالاضافة الى الصحف والمجلات المصرية والخليجية مثل (المصور وآخر ساعة وسلسلة اقرأ الشهرية والرسالة والهلال ومجلة الازهر والثقافة والاديب والآداب والكتاب وصوت البحرين والبلاد السعودية والمنهل). وكانت المكتبة هي المتعهدة الوحيدة بمقاطعة الاحساء بتوريد وبيع هذه المجلات والصحف. الطباعة والنشر ولم يقتصر نشاط المكتبة على توريد الكتب وتوزيعها فحسب, بل قامت كذلك بنشر كتب ودراسات متعلقة بآداب المنطقة, مثل طبع ونشر ديوان ابن المقرب شاعر الاحساء المعروف. وكان يتم استيراد الكتب من الحجاز, ولكن فيما بعد وفي سبيل دعم المكتبة بالكتب المفيدة النافعة كان صاحبها يتردد على اكبر المكتبات بمصر - آنذاك - مثل مكتبة مصطفى البابي الحلبي ومكتبة عيسى الحلبي ومكتبة الخانجي ومكتبة دار المعارف ومكتبة مصر. هذا بالاضافة الى اهتمام المؤسس بكتب التراث القديمة لاسيما بالمخطوطات فكثيرا ما كان يتردد على الاسواق الشعبية للبحث عن الكتب المستعملة القديمة والمخطوطات التي كانت تعرض للبيع في الغالب من قبل من لا يدرك قيمتها او اسرة توفى الله ولي امرها, او رب اسرة محتاج. لقد كانت نواة المكتبات المنزلية لكثير من طلبة العلم في الاحساء تستمد من هذه المكتبة, ومنها على سبيل المثال مكتبتي الخاصة التي بدأت في تجميعها عندما كنت في الصف الاول متوسط حيث اشتريت يومها من الشيخ عبدالله الملا اول مرجع في الحديث باجزائه الاربعة وهو كتاب الترغيب والترهيب للمنذري, كان ذلك منذ ما ينيف على الخمس عشرة سنة خلت. نشر المعرفة لقد ساهمت هذه المكتبة مساهمة فعالة في نشر العلم والمعرفة والثقافة في ربوع الاحساء, وتركت بصماتها في تاريخ المنطقة العلمي بصورة تستحق التدوين والدراسة. تحدي الزمن واذا رمنا قول الحقيقة فلابد ان نشير الى ان مكتبة التعاون الثقافي لم تكن الوحيدة الناشطة على المساحة الثقافية في الاحساء على مدى هذه الحقبة من الزمن, وانما كانت معها مكتبات اخريات شقيقات ينافسنها في بناء المشروع الحضاري المتمثل في توعية المجتمع وتثقيفه, نذكر على سبيل المثال من المكتبات التجارية مكتبة الاحساء التي اسسها عبدالرحمن البنيان في حدود عام 1370ه ومكتبة الفلاح التي اسسها محمد ابراهيم الطريري في حدود عام 1980م والتي بلغت اوج نشاطها في عام 1988م فبدأ ينشر ماهب ودب, واستطاع ان ينافس مكتبة الملا فترة من الزمن. الا ان هذه الاخيرة بقيت صامدة في وجه اي منافسة وظلت هي المتفوقة على شقيقاتها من جهتين: الاولى انها الاقدم والاكبر سنا بينهم, والثانية انها الاطول عمرا بعدهما, ففي حين الغيت بعض المكتبات او تحولت الى تجارة من نوع آخر اكثر ربحا بقيت مكتبة الملا تتحدى الزمن. من جهة اخرى ظهر امام مكتبة التعاون الثقافي تحد من نوع جديد يتمثل في ظهور مكتبات عملاقة بامكانات مادية هائلة ومبان فخمة وكوادر متخصصة وتحتوي بالاضافة الى الكتب والقرطاسية ما استجد من مخترعات عصرية مثل الكمبيوتر وملحقاته, ومن هنا رأى القائمون على مكتبة الملا انه لابد من مواكبة الزمن وتطوير المكتبة بما يتواءم مع تاريخها العريق, وهذا ما حصل بالفعل, حيث تم البدء في بناء المقر الجديد الفخم ذي الطوابق المتعددة الى جانب البناء الحالي المتواضع للمكتبة, وقد تم البدء في تنفيذ المشروع منذ زهاء ثلاث سنين والعمل مازال مستمرا حتى اللحظة, وقد تم انجاز نسبة جيدة من المشروع, وعندما ينتهي العمل منه تماما, ستبدو مكتبة التعاون الثقافي في حلة قشيبة وقد عاد اليها شبابها بعد ان اضحت عجوزا لا تقوى على الحراك والمنافسة, واذا بدماء شبابية جديدة يتم ضخها في عروقها, فتبدو اكثر رونقا لاسيما انها ستكون جامعة بين الاصالة والتاريخ العريق وبين المعاصرة ومواكبة الزمن وهذا الجمع بين هذين العاملين هو ما يفتقده كثير من المكتبات العصرية اليوم التي تفتقد العامل الاول مما يعني ان مكتبة التعاون الثقافي هي الاكثر تفوقا في عالم المكتبات على مستوى الاحساء, فمن دكان صغير متواضع في سوق القيصرية الشعبي الى مجمع تجاري ضخم هذه القفزة النوعية ان دلت على شيء فانما تدل على ان ابناء الشيخ مصممون على متابعة مسيرة الكفاح التي قرر والدهم خوضها بلا هوادة والى آخر لحظة من حياته. منجم ثقافي لقد ظل المؤسس ما يربو على الخمسين عاما في خدمة الكتاب والثقافة في هذا البلد يعمل في صمت بعيدا عن الاضواء ودون اي جلبة حتى تخطى القمم باقدام العمالقة وهمم النسور, وحاز المرتبة الاولى وشرف السبق في اكثر من مجال, فمكتبته هي اول مكتبة في الاحساء, وهو اول رئيس مجلس بلدي منتخب في الاحساء وهو من اوائل الدارسين في الخارج, ومن اوائل المدرسين في الداخل, واليوم وبعد هذا العمر الحافل بالعطاء, وقد بلغ من العمر عتيا, واتى على ذاكرته ما اتى عليها نسي كل شيء الا الكتاب صديقه الوفي المخلص على مر السنين وكر الايام! افلا يستحق منا بعد هذا ان نوشح كتاباتنا بذكر سيرته العطرة واعتبار مكتبته منجما ثقافيا ورمزا حضاريا في تاريخ الاحساء الحديث؟ كيف لا؟ وكثير ممن امتشقوا القلم من اهل العلم والفكر في الاحساء وانتجوا لنا دراسات وابحاثا قيمة, يعود الفضل فيها بعد فضل الله الى مؤسس هذه المكتبة, لانه هو الذي زودهم بالمصادر والمراجع ومن خلالها كتبوا مؤلفاتهم, فكانت المكتبة لهم بما فيها من مصادر متنوعة بمثابة الحديقة الغناء بما فيها من ازهار متنوعة اخذوا من رحيقها وصيروه عسلا صافيا.. فكانت المكتبة هي الحديقة وكان المؤسس هو الزارع. الشيخ عبدالله الملا محمد الملا