اذا قلت ان مأزق إيران جزء من عموم البلوى, فأنت محق لا ريب, حيث الكل في منطقتنا محشور في الزاوية. لكنك اذا اتفقت معي على ان المآزق درجات, فانني وقد عدت لتوي من طهران, اجازف بالقول ان المأزق الإيراني من العيار الثقيل, على الأقل لانه مضاعف وخارجي في نفس الوقت. "1" سأبدأ بالمأزق الذي تهب رياحه من الخارج, ليس فقط لأن طبول الحرب التي مابرحت تدق بصوت عال هذه الأيام توحي بأننا بصدد الدخول في الدقيقة الستين التي تسبق ساعة الانفجار الذي يراد له ان يستصحب انقلابا في خرائط المنطقة, ولكن ايضا لان رياح الخارج لها تأثيراتها القوية على تفاعلات الداخل ومستقبله. في حدود علمي, فان القيادة الإيرانية تلقت قبل اشهر قليلة تطمينات من واشنطن, خلاصتها ان إيران ليست مستهدفة من الحرب المحتملة, وان مصالحها في العراق وأمنها القومي لن يمسا بأي سوء, ومن ثم فليس هناك ما يبرر القلق او التوجس في طهران. الرسالة استقبلت في العاصمة الإيرانية بالحذر فضلا عما أثارته من جدل. أولا: لان الشكوك متجذرة بين البلدين على نحو اقنع القيادة الإيرانية بأن هدف الرسالة هو تهدئة مسرح العمليات, لكي يحقق الأمريكيون مرادهم في العراق دون معوقات. وثانيا: لان تجربة أفغانستان أكدت للإيرانيين ان واشنطن تريد استخدام الورقة الإيرانية, وليست مستعدة لأن تقيم مع طهران علاقة تعاون مشترك. آية ذلك ان إيران رغم الجهد الكبير الذي قدمته لانجاح الحملة العسكرية ضد نظام طالبان, فان الإدارة الأمريكية أدرجتها في النهاية ضمن ما سمي ب(محور الشر).وإذا جاز لي أن ألخص المأزق الإيراني من الزاوية التي نحن بصددها, فقد أقول ان إيران تشعر بان الولايات المتحدة تحكم الحصار من حولها حينا بعد حين. واذا ما تم احتلال العراق فان إيران سوف تعاني ضغوطا قوية متعددة المصادر. في الوقت نفسه فثمة ادراك في طهران لحقيقة انه بعد اجتياح بغداد سيحل الدور على إيران, من ناحية لتصفية الحسابات السابقة بين واشنطنوطهران. ومن ناحية ثانية لان إيران بلد نفطي, يطل على بحر قزوين الذي يعوم فوق بحيرة من النفط. وطالما ان الهيمنة على منابع النفط ضمن أهداف الحملة, فان الساحة الإيرانية في الحسابات الأمريكية ينبغي ان (تطوع) عند الحد الأدنى, هذا اذا لم تخضع. ومن ناحية ثالثة لانه بعد ضرب العراق ومع افتراض تحطيم قدرته العسكرية, فان ميزان القوة في المنطقة سيميل لصالح إسرائيل بصورة نسبية كبيرة.لكن الميزان سيميل بشكل مطلق لصالحها اذا ما اضعفت إيران وكسرت شوكتها وضربت او شلت مفاعلاتها النووية. وبلوغ ذلك الهدف ضروري للغاية لاغلاق الملف الفلسطيني, وفرض الشروط والإرادة الإسرائيلية على منطقة الشرق الأوسط كلها. ومعروف ان إغلاق ذلك الملف يعد واحدا من أهداف الحملة التي أعلن عنها وزير الخارجية الأمريكي كولن باول. " 2" ذهبت الى طهران للمشاركة في مؤتمر دولي يعقد سنويا لمناقشة أوضاع منطقة الخليج في ظل المتغيرات المحيطة, دعا اليه مركز الدراسات السياسية والدولية التابع للخارجية الإيرانية. وكان طبيعيا ان تخيم على المؤتمر طول الوقت أجواء الحرب ضد العراق وتداعياتها المحتملة. وذات يوم أثناء الغداء قال لي أحد السفراء الإيرانيين السابقين ان الحصار الاقتصادي الذي فرضته الولايات المتحدة على إيران منذ قيام الثورة, يتحول الآن الى حصار استراتيجي محكم أشد خطرا, الأمر الذي يهدد البلاد بعزلة استراتيجية قاسية. وبعد الغداء دعاني الى غرفة جانبية تصدرتها خريطة كبيرة لإيران والدول المحيطة بها, وقال: ثمة قلق يساور إيران مما يحدث في شمالها. وهي الجبهة التي كانت مستقرة الى حد كبير في ظل وجود الاتحاد السوفيتي. الآن تجد إيران نفسها وقد جاورتها دول عدة محيطة ببحر قزوين. وتلك الدول اختلفت أوضاعها وحساباتها, والنفوذ الأمريكي والإسرائيلي يتمدد فيها على نحو يقلق إيران. وقد اضطرت طهران للتدخل فيما يجري في شمالها دفاعا عن أمنها ومصالحها الوطنية, فوقفت الى جوار أرمينيا المسيحية في صراعها ضد اذربيجان ذات الأغلبية المسلمة مخافة ظهور أذربيجان كبرى تجذب اليها القومية الأذرية في إيران, وبسبب العلاقات الأذربيجانيةالأمريكية الوثيقة التي لا تطمئن إليها طهران.وقد شاءت المقادير ان تظل الحدود الشرقيةلإيران مصدرا لقلقها منذ السنوات الأولى للثورة. ففي البداية كانت أفغانستان تحت الاحتلال السوفيتي. وهو ما لم تسعد به طهران التي خشيت من تطويق الدولة العظمى لها, خصوصا ان الحدود المشتركة بين البلدين تكاد تصل الى ألف كيلومتر. فعمدت الى مساعدة ودعم بعض فصائل (المجاهدين), واستقبلت على مدى عشر سنوات أكثر من مليون لاجىء أفغاني, كانت لهم مشاكلهم الاجتماعية والاقتصادية. وهذا الشعور بالقلق استمر بعد الانسحاب السوفيتي. فقد اقتتل المجاهدون فيما بينهم, ثم قاتلوا حركة طالبان, التي أنزلت بهم مظالم كثيرة. وبعد ان أيدت إيران تحالف الشمال, وساعدت على اسقاط نظام طالبان, فانها وجدت نفسها في خندق واحد مع الأمريكيين الذين ألقوا بثقلهم الى جانب تالف الشمال وكان لهم دورهم في هزيمة نظام طالبان بعدما جرى في 11 سبتمبر. وانتهى الأمر بإرساء الوجود الأمريكي على الأراضي الأفغانية, بل وبالقرب من الحدود الإيرانية (في ولاية هيرات).لا تشعر إيران بالراحة ايضا على جبهاتها الغربية, حيث توجد تركيا, وارتباطاتها قوية ومعروفة بالولايات المتحدة وإسرائيل. ولا ينسى الإيرانيون ان تركيا سمحت في وقت سابق للطائرات الإسرائيلية بالقيام بطلعات استكشافية فوق مجال الأراضي الحدودية لبلادهم.ليس ذلك فحسب, وانما هناك اقتناع في طهران بان الولايات المتحدة تدعم تعاونا استراتيجيا بين مثلث يضم تركيا وإسرائيل واذربيجان, يعمل على منع مد أنابيب النفط والغاز من بحر قزوين الى العالم الخارجي عبر إيران. والهدف من ذلك هو الضغط على طهران, وعزلها عن الترتيبات المستقبلية في القوقاز وقزوين وآسيا الوسطى لإحكام الحصار حولها. على الحدود الجنوبيةلإيران يتركز الاهتمام الدولي والأمريكي بوجه خاص. وهناك تقبع الأساطيل الغربية فضلا عن القواعد الأمريكية. اذ من هناك يصدر النفط عبر البواخر التي تخترق بحرعمان لتنقله الى مختلف أنحاء العالم, وذلك سبب كاف لتمسك الأمريكيين بالبقاء في المنطقة. وفي ظل العلاقات غير الودية القائمة بين واشنطنوطهران, فان الأخيرة لا تستطيع ان تستشعر الاطمئنان او الارتياح إزاء ذلك التواجد المسلح. اضاف محدثي: هذا التواجد الأمريكي الذي يضغط على إيران من الجهات الأربع يشكل مأزقا لإيران لا ريب. واذا اضيف الى ذلك وجود أمريكي كثيف في العراق, في حالة ما اذا نجحت محاولة اسقاط نظامه, فان الجبهة الغربية لإيران ستصبح الأكثر سخونة وخطرا, خصوصا اذا علمنا ان الحدود المشتركة بين البلدين بطول 1630 كيلومترا, واذا وضعنا في الاعتبار ان للولايات المتحدة طموحات أخرى بعضها سبقت الإشارة اليه تتجاوز مسألة إسقاط نظام بغداد واستبداله بآخر. "3" ما العمل؟ هذا هو السؤال الكبير الذي يلوح في الأفق الإيراني, ويثير نقاشات واسعة النطاق داخل مختلف التجمعات السياسية, تنعكس بوضوح على صفحات الصحف. لا يختلف أحد حول الموقف من الرئيس صدام حسين ونظامه, لأن احدا لم ينس تجربة حرب السنوات الثماني, التي خلفت ثارات ومرارات مازالت حية في الوجدان العام. وثمة اجماع ايضا على ان الولايات المتحدة كانت طرفا في تلك الحرب. وان العدوان العراقي على إيران كان لحساب الولايات المتحدة بالدرجة الأولى, وانها لذلك باركت العدوان وقدمت الى النظام العراقي مختلف صور العون, من المعلومات والخرائط, الى السلاح والذخيرة.حتى السلاح الكيماوي الذي قدم الى العراق كانت له مصادره الغربية التي رحبت بها وباركتها واشنطن. وكان وزير الدفاع الأمريكي الحالي رامسفيلد احد الذين نقلوا بعض ذلك العون, حين زار بغداد في عام 1982م مبعوثا للرئيس الأسبق دونالد ريجان.بسبب هذه الخلفية فان الجميع يتمنون زوال النظام العراقي ورئيسه, ولكن قلقهم أكبر إزاء احتمال ان يتم ذلك بأيد أمريكية, بحيث يستبدل المر بما هو أشد مرارة منه. وذلك وجه آخر للمأزق الإيراني. والحضور الأمريكي في الجدل الإيراني ليس جديدا ولكنه مستمر بدرجات متفاوتة منذ قيام الثورة في عام 79, التي كانت الولايات المتحدة في شعاراتها وأدبياتها (شيطانا أكبر) لم يتمن له أحد شيئا سوى (الموت) والفناء. غير ان صعود الاصلاحيين ووصولهم الى السلطة في عام 1997 وفر أجواء جديدة في إيران فتحت الباب لنقاشات أكثر رصانة وتنوعا, طالت ملفات كثيرة حساسة ودقيقة, من ولاية الفقيه الى العلاقات مع الولايات المتحدة, ومن إيران أولا والإسلام ثانيا الى الإسلام أولا وإيران ثانيا. وهذه المناقشات الأخيرة طرحت ترتيب أولويات (الأجندة) الإيرانية, وهل تغلب المصالح الوطنية على الالتزامات العقائدية أم العكس (عمليا غلبت إيران مصالحها الوطنية في أكثر من حالة, حيث انحازت الى جانب أرمينيا في صراعها ضد أذربيجان, كما سبقت الإشارة وحين اعتبرت موضوع الشيشان شأنا داخليا روسيا وامتنعت عن مناصرة المسلمين الشياشنيين).بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر, بدا واضحا ان الولايات المتحدة متجهة الى اسقاط نظام طالبان في أفغانستان, وبرز بقوة السؤال ما العمل وارتفعت درجة الحرارة والمصارحة في صدد الإجابة عنه. وكان المشهد اقرب الى الصورة التي نحن بازائها الآن. ففي كابول نظام ينتسب الى الإسلام ويخاصم إيران, والأمريكيون في سبيلهم الى اسقاطه وإزالته. فهل يدان هذا المسلك ام يرحب به او يسكت عنه؟ مرة أخرى ثار التساؤل حول المقابلة بين المصالح الوطنية والعلائق العقائدية او الأيديولوجية. وتعالت أصوات مطالبة ترجيح الأولى على الثانية, وبمحاولة انتهاز (الفرصة الذهبية) المتاحة لتأييد تغيير النظام الأفغاني, والتفاهم مع الولايات المتحدة في هذا الصدد, من خلال ما سمي بالحياد (النشيط) او (الايجابي). وهو يختلف عن المسلك الإيراني إزاء حرب الخليج الثانية (التي أدت الى تحرير الكويت) وقد اختارت فيه طهران موقف الحياد السلبي, حيث لم تؤيد الأمريكيين ولا وقفت ضد العراق او حاولت تصفية الحساب مع نظامه.ترجم الحياد الإيجابي الى دخول إيران في اللعبة عبر مساندتها التحالف الشمالي, واشتراكها في اسقاط نظام طالبان, حتى كانت بعض عناصر الحرس الثوري مع قوات التحالف أثناء دخولها الى كابول. وقد كان السيد علي خامنئي مرشد الثورة في مقدمة الذين حاولوا ضبط مفهوم الحياد الإيجابي, حيث اعلن في أصفهان في 2001/10/30: اننا نشجب الإرهاب, بكل أشكاله, ونعارض الحملة الأمريكية على أفغانستان, ونرفض الدخول في أي تحالف تقوده أمريكا. "4" اختلف الأمر في الحالة العراقية. ففي أفغانستان كانت الولايات المتحدة في حاجة الى دور طهران, لان إيران كانت تدعم التحالف الشمالي منذ تولي حركة طالبان السلطة في عام 1996م. ومن ثم كانت موجودة على الأرض الأفغانية بصورة او بأخرى. فضلا عن ذلك فان وصول الطائرات العسكرية الأمريكية الى شمال أفغانستان كان يقتضي أحيانا مرورا في الأجواء الإيرانية مع بعض التسهيلات الأخرى. اما في حالة العراق فان الولايات المتحدة رتبت أمرها مع المعارضة العراقية في الخارج, ولم تكن بحاجة الى الدور الإيراني في هذا الاتجاه, كما انها ليست بحاجة الى تسهيلات عسكرية من إيران, وغاية ما أرادته واشنطن في طهرن هو ان يتم تسكين الجبهة الإيرانية. وألا تحرك قوات فيلق بدر التابعة للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية بالعراق, لدخول جنوبالعراق.وسواء لأن واشنطن لم تسترح للدور الإيراني في أفغانستان, بسبب خشيتها من الحضور الإيراني في العراق لأن الغنيمة العراقية اثمن وأكثر إغراء من الأفغانية, فان واشنطن حرصت على تقليص الدور الإيراني عند الحد الأدنى, او إلغائه اذا أمكن.في المقابل, تصرفت إيران بحذر ملحوظ, وبمقتضى سياسة الحياد الايجابي التي تبنتها فانها وقد أدانت الحرب وفكرة تغيير الأنظمة بالقوة, قررت ألا تعترض طريق القوات الأمريكية وألا تعرقل عملياتها, ولا تشارك في أي أنشطة عسكرية ضد العراق, وبطبيعة الحال فانها لم تفكر في القتال الى جانب النظام العراقي. وفي الوقت نفسه فانها راهنت على الوقت, وآثرت الانتظار حتى ينقشع غبار المعركة وترى نتائج جولتها الأولى على الأقل.نعم تجددت مناقشة موضوع العلاقات مع أمريكا, ودعت بعض الأقلام الى اجراء حوار غير مشروط مع واشنطن, ولكن سعي الإدارة الأمريكية الى الضغط لتقليص الدور الإيراني رجح كفة التشدد في الساحة الإيرانية, حتى ان مرشد الثورة السيد على خامنئي أصدر تصريحا حذر فيه الذين يكتبون او يتحدثون في مسألة الحوار مع أمريكا, سيتعرضون لتوقيع العقوبات عليهم طبقا للقانون. وصدر في هذا الصدد بيان رسمي نشر في 2002/5/28م يقول ما نصه: بالنظر الى القرار الذي اتخذه زعيم الثورة بمنع اجراء أي نوع من المحادثات مع أمريكا, فإن محكمة طهران, عملا من جانبها بتنفيذ قرارات الزعيم, واحتراما لمساعي كافة الأجهزة الإعلامية والأشخاص الذين يعملون في الساحة الإعلامية والذين يقدمون المصالح القومية على أية قضايا أخرى, تهيب بكافة وسائل الإعلام (التليفزيون والصحافة والمنابر الرسمية) ألا يقوموا بأية دعاية مؤدية للحوار مع أمريكا حتى لا يقعوا تحت طائلة القانون. "5" همس في أذني أحد العارفين بما يجري في كواليس طهران وهي بلا حصر قائلا: ان وزير الثقافة العراقي أثناء زيارة قام بها للعاصمة الإيرانية قبل أشهر معدودة اقترح إنشاء قيادة مشتركة بين العراقوإيران لمواجهة العدوان الأمريكي والإعصار الذي يتوقع ان يستصحبه. وهو ما فوجىء به المسؤول الإيراني الذي تسلم الرسالة. ورغم ان أغلب العناصر المعنية في وزارة الخارجية سارعت الى رفض الاقتراح, مستحضرة سجل الرئيس العراقي الذي كتبت صفحاته بالدم الإيراني, إلا ان البعض رحب بالفكرة ووجد فيها وجاهة يمكن ان تدفع الولايات المتحدة الى مراجعة موقفها وحساباتها, ومن ثم فانها قد تجنب المنطقة أهوال الحرب وويلاتها. وربما بسبب عمق أزمة الثقة جراء حساسية الرأي العام الشديدة إزاء الرئيس صدام حسين ونظامه. فان الاقتراح لم ير النور, ولم يشر اليه في وسائل الإعلام من قريب او من بعيد. ومن ثم فانه احيط بالصمت, ودفن بسرعة في مكاتب الخارجية ولم يغادرها. سألت محدثي عما اذا كان اقتراح من ذلك القبيل يمكن ان يخرج إيرانوالعراق من المأزق, فكان رده انه حقا لا يعرف, لكنه أردف قائلا: ان قطار انقاذ الموقف قد فات على كل حال, وان قطار الحرب هو الذي يتحرك الآن, وما يشغل إيران في الوقت الراهن ليس الخروج من المأزق, وانما الحد من خسائره. نواصل الحديث عن الوجه الآخر للمأزق في الأسبوع القادم بإذن الله.