لم يغب التهديد بالخيار العسكري عن بحث الملف النووي الإيراني منذ أن بدأ الجدل في شأنه، وجرى حديث عن إسقاط هذا الخيار مع فوز باراك اوباما ومجيء الإدارة الأميركية الجديدة التي أرسلت إشارات ايجابية للحوار مع طهران والدخول معها في مفاوضات غير مشروطة، لكن توجيه ضربة لإيران عاد أخيراً إلى واجهة الأخبار وتصدّر قائمة التوقعات السياسية، وبدا من الواضح أن طهران تتعامل بجدية مع هذه التهديدات بشكل أكبر من السابق، خصوصاً مع تراجع ضغط الملف العراقي على الإدارة الأميركية. ولدى طهران من القدرة والفرص ما يمكنها من استثمار الملف الأفغاني وتوظيف نفوذها في افغانستان للضغط على الأميركيين وهو ما يرجحه كثيرون. وربما يفسر إخفاق قوات التحالف هناك، حالة الغضب الغربية والأميركية تجاه إيران، لأنه يؤشر بشكل أو بآخر على «عدم تعاون» الحكومة الإيرانية للمساعدة في تغيير صورة الوضع في هذه البلاد. وتتداول الدوائر السياسية الإيرانية باهتمام في هذه الأيام في تقرير يتحدث عن تعاون أميركي - إماراتي يقوم على مساعدة الإمارات العربية المتحدة في بناء مشروع للطاقة النووية بكلفة 20 بليون دولار في مقابل تعاون أبو ظبي مع واشنطن في حظر بيع البنزين لإيران. ويقال إن هذا التعاون هو بند ضمن بنود عدة في خطة مقترحة قدمت للرئيس الأميركي باراك اوباما لمواجهة الإصرار الإيراني على الاستمرار في البرنامج النووي، وتسربت تفاصيل عن هذه الخطة من خلال تقرير صدر عن «المركز السياسي للحزبين» يتناول سعي واشنطن وحلفائها لوقف النشاط النووي للجمهورية الإسلامية، وقام بإعداد التقرير عدد من أعضاء مجلس الشيوخ الحاليين والقدامي من الحزبين الجمهوري والديمقراطي. وهو حدد طريقين للتعامل مع القضية النووية الإيرانية، حيث ركز على «العقوبات» كوسيلة مؤثرة في هذا السياق، خصوصاً في مجال النفط والطاقة، داعياً إلى عدم إسقاط التهديد باللجوء إلى الخيار العسكري، ووصف هذين المسارين بأنهما الطريقة المثلى للتعامل مع إيران. ووفقاً لتلك الخطة فإن الأيام القادمة ستشهد تعاملاً ضمن مسارات ثلاثة مع طهران، ويتحدث المستوى الأول عن المفاوضات والحوار وذلك بناء على تقييم وصلت اليه محادثات مجموعة ال (5 + 1) مع طهران، وإذا ما خلص التقييم إلى جدية إيران في موضوع التفاوض فسيترك ذلك أثره بشكل استراتيجي على المستويين الآخرين. ويقوم المستوى الثاني على العقوبات كوسيلة للضغط، وذلك ضمن استراتيجية تقوم على المقاطعة الواسعة لشل القطاعات الحيوية الإيرانية في مجال الطاقة، وفي هذا السياق دعا المركز في تقريره إلى «التعاون مع جيران إيران ودول المنطقة، خصوصاً الإمارات العربية واسرائيل لمنع صادرات البنزين ووضع طهران تحت ضغط حقيقي»، واقترح التقرير «إغراء دول الجوار الإيراني بالتعاون» من خلال مشاريع حيوية كالمشروع الإماراتي الذي تمت الاشارة اليه في المقدمة. ويتناول المستوى الثالث بوضوح اقتراحاً بعمل عسكري أميركي ضد المنشآت النووية الإيرانية ويشدد على أن يبقى هذا الخيار قائماً وأن لا يغيب عن طاولة البحث، كخيار لشل القدرة النووية الإيرانية ومنع طهران من «امتلاك السلاح النووي»، ويدعو إلى السير فيه في حال رفضت الجمهورية الإسلامية وقف برنامجها النووي. ووسط هذه الاحتمالات التي تحدث عنها التقرير الأميركي والتي تبحثها طهران بجدية كان خيار التفاوض مع إيران طاغياً على الحدث العالمي وبدا واضحاً أنه يتصدر قائمة أولويات اوباما وتقدم على الموضوع الفلسطيني ومسار التفاوض، ويدلل على ذلك الإشارة التي صدرت عن اوباما عندما خاطب نتانياهو وأبو مازن بالقول إن لديه الكثير من القضايا المهمة التي يجب أن يهتم بها، ويبدو أن التفاوض مع طهران على رأس هذه القضايا، وهو ما دفع اوباما إلى وصف محادثات ال (5 + 1) مع الحكومة الإيرانية، بأنها أهم وظيفة للمجتمع الدولي في معادلة تتساوى فيها كفة الحرب والسلم. ويعتبر الغرب أن إيران مارست بذكاء لعبة «المراوغة زمنياً» واستثمرت التمديد بشكل يجب ألا يستمر، ولذلك ظهر جلياً الإصرار الغربي على الحصول على ما يسميه الساسة الغربيون ب «رد واضح ومحدد» من طهران، وفي المقابل يكرر الإيرانيون مواقفهم السابقة ب «أن بلادهم لن تتراجع عن المضي في برنامجها النووي السلمي وأنها لن تقبل التفاوض على مسألة وقفه»، وتشير التوقعات إلى أن نهاية هذا العام ستكون مصيرية في ما يتعلق بمستقبل الملف النووي الإيراني. وبالتزامن مع إعادة التأكيد على هذا الموقف، تتعامل طهران بجدية مع تسريبات تتحدث عن ضربة عسكرية قد تكون في خريف او شتاء العام المقبل. ويعزز من موضوع الخيار العسكري ما يوصف ب «التصلب في الموقف»، وفشل العقوبات في إحداث التغيير الذي يريده الغربيون، فالحكومة الإيرانية وقطاعات واسعة من المجتمع الإيراني، خصوصاً الطبقة المتوسطة تجيد التعايش مع آثار هذه العقوبات، ويعزز من ذلك أن الاقتصاد الإيراني من النوع الذي لا يرتبط بشكل كامل بالسوق العالمي، ولا تعدو العقوبات كونها وسيلة تستخدم لأنها متاحة. لكن محللين آخرين يرون في العقوبات خطراً حقيقياً على طهران إذا ما انضمت روسيا إلى مؤيديها ومنفذيها. وترفض روسيا الحديث عن وجود صفقة سرية وراء قرار اوباما تعليق مشروع الدرع الصاروخية في أوروبا الشرقية. وتنفي موسكو وجود أية صلة بين برنامج ايران النووى وخطط الدرع الصاروخي الأميركي باعتبار أن «ايران تعتبر قضية منفصلة». لكن النفي الروسي لا يبدو قابلاً للتصديق، خصوصاً أن تقارير صحافية روسية حظيت باهتمام إيراني تؤكد أن واشنطن تريد مقابل التخلي عن مشروع الدرع المضادة للصواريخ ان تعتمد موسكو موقفاً اكثر حزماً حول البرنامج النووي الايراني. وسواء صدقت التصريحات الروسية أم لا، فإن من المؤكد أن هناك ترتيبات أمنية جديدة ستكون ايران عنوانها العريض، فقد قال اوباما ان الدرع الصاروخية ستعوّض بنظام يوفر «حماية أقوى وأذكى وأسرع للقوات الأميركية وحلفاء الولاياتالمتحدة» في أوروبا، القرار وفقاً لتصريحات وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس جاء بعد «مراجعة قدرات ايران الصاروخية (...) وأن الخطر لم يعد من صواريخ إيران الباليتسية، بل من صواريخها القصيرة والمتوسطة المدى. وهناك نظام حماية جديد يشمل في جزئه الأول نشر سفن تحمل صواريخ أرض - جو تجوب بحر الشمال والمتوسط، وفي جزئه الثاني صواريخ أرض - جو معدلة، لن تجهز قبل 2015. وما تخشاه دوائر سياسية إيرانية أن يكون التعليق نتيجة صفقة يكون فيها رأس إيران هو المطلوب. ومنذ أشهر تطرح الصحافة الإيرانية أسئلة عن مدى امكان الاتكاء على المصالح المشتركة بين موسكووطهران. والقلق الإيراني حيال ذلك ليس مقصوراً على تعليقات الصحف والمحللين السياسيين بل يطرح كسؤال محوري داخل مؤسسات صنع القرار في إيران. وتوقعت دراسة أعدها مجلس الشورى الإيراني ونشرت قبل أشهر أن تضحي روسيا بمصالحها مع الجمهورية الإسلامية وحذرت الدراسة بشكل واضح من حصول أميركا على امتيازات من الدول المجاورة تساعدها في تقييد التحركات الإيرانية، وذلك باستخدام قضية الدرع الصاروخية كورقة تمارس من خلالها ضغوطها على تلك الدول. وتقول أبرز النتائج التي ركزت عليها دراسة مجلس الشورى أن «روسيا مستعدة لتقديم الاقتراحات الثمينة في مجال التعاون الأمني مع أميركا لتخفف من وطأة المشروع». وأوضحت الدراسة التي أعدها قسم الدراسات السياسية ورصد فيها وجهات نظر وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) والكونغرس الأميركي وروسيا أن المشروع يظهر طبيعة النظرة الأميركية لشؤون التقدم والتطور العسكري الإيراني. ونبهت إلى أن «الروس مستعدون من أجل الوصول إلى أهدافهم للتضحية بمصالحهم الخاصة مع إيران»، ودللت على ذلك بتقديم روسيا اقتراحاً للتعاون مع أميركا في أذربيجان، وهي الدولة التي تشهد في السنوات الأخيرة حضوراً أميركياً واسعاً وتغلغلاً لمؤسسات اسرائيلية تقيم مشاريعها في مناطق قريبة من الحدود الإيرانية. وفي طاجيكستان الدولة القريبة من إيران والتي كانت الى وقت جزءاً من أراضيها وما زالت إلى اليوم تتحدث الفارسية يتسع النفوذ الأميركي، وفي زيارة إلى هذا البلد قبل أشهر قليلة كان من السهل ملاحظة وجود القواعد العسكرية الأميركية التي تقام في واحدة من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق تحت سمع روسيا وبصرها، وفي حينه أشار مطلعون على الشأن الطاجيكي الى الحضور الأميركي في بلدهم كدولة محاذية لأفغانستان حيث تخوض واشنطن حرباً ليست بالسهلة مع طالبان، إلا أن إيران لا تغيب عن ذلك الحضور العسكري وتأتي في صميم أهدافه. وكان اجتماع دول بحر قزوين - الذي عقد في طهران - أعلن صراحة تحريم استخدام أي من أراضي البلدان المحاذية لهذا البحر في الهجوم على البلدان الأخرى. ولكن دراسة مجلس الشورى الإيراني توقعت أن تحصل أميركا مقابل تخلّيها عن مشروع «الدفاع الصاروخي» على امتيازات من الدول المجاورة، وتصب هذه الامتيازات في مسار تقييد تحركات الجمهورية الإسلامية. والحل كما تراه دراسة مجلس الشورى المقدمة للحكومة الإيرانية يتلخص في ما أسمته بطمأنة أوروبا حيث دعت إلى زيادة برامج التعاون ورصد جوانب الترهيب والترغيب لمنع هذا الأمر، خصوصاً في ما يخص أذربيجان وروسيا وجعل تعاون هذين البلدين مع أميركا مكلفاً. وقال مركز أبحاث مجلس الشورى الذي أعد الدراسة أن الحديث عن البرنامج الصاروخي الإيراني بوصفه تهديداً جدياً للغرب، يجب أن يقابله سعي لتوضيح أهداف طهران وطمأنة والفوز بثقة دول العالم خصوصاً الأوروبية منها.