كما لو أن الزمن تجمع من أزمنة مختلفة ، و إذا بابني الطفل ، الفارع ، يجلس أمامي ، و يشير بيده : * ما هذا النخل ؟ أمسكت بيده الغضة ، و نهضت : * هيا لأريك شيئاً عنه ! قدته إلى مزرعة جده ؛ دخلنا من البوابة الطينية الواسعة ، و المفتوحة أبداً كما لو أنها أدخلت الماضي كله من جوفها ؛ توقف الابن أمام الباب الضخم مندهشاً ؛ سحبت يده ؛ ودخلنا إلى حيث النخيل .. مشينا حتى صار فوقنا سماء من السعف .. ظلال وارفة ، تتخللها لمعات وامضة من ضوء الشمس ؛ بدت جذوع النخل صفوفاً منتظمة باتساق جميل : المسافات بينها متساوية تشكل خطوطاً مستقيمة من أي جهة نظرت ، في الوسط بدا متكأ لامعا ؛ مشينا نحوه : إنه مستطيل من أحجار صفت بعناية فائقة ، و ثبتت بالجص ، و في الوسط ، استلقى جذع نخلة قديم ، قطع من فوق منبت النخلة تماماً .. بدت بقايا الجذور كدائرة صغيرة أكلتها النار ، وقد لف رأس الجذع ببقايا شماغ اهترأ جسده و اضمحلت ألوانه . سأل الغر : * ما هذا يا أبي ؟! * قبر نخلة ! طارت من عينيه الصافيتين دون قلق دهشت طرية ؛ قال :! * و هل تقبرون النخل هنا ؟!! * إ نه جدك من فعل ذلك .. لكن دعني أريك شيئاً آخر ثم نعود إلى هذا القبر ! مشيت به ؛ و أريته صفوف النخيل الطويلة ؛ رفع رأسه إلى السماء ، فهفهف خوص السعف اليابس متحركاً كالمراوح من الواضح أن الكثير من النخيل فقدت خوصها الأخضر كما لو هاجرت المياه من تحتها إلى أعماق سحيقة .. قلت له : * هل تلاحظ شيئاً في هذه الجذوع ؟! * لا . * انظر إلى هذا الجذع : إنه غليظ في البداية .. و هاهو يدق هنا حتى يصبح ناحلاً كخصر فتاة !! طرب الشاب لذلك و اقترب مني بعينين باسمتين و بعد تأمل قال : * ولكن لهذه النخلة أكثر من خصر .. و الأخرى ، و الأخرى : إنهن نواحل هنا ، و هنا ، و هنا ... و أخذ يشير باصبعه إلى حيث تضمر الجذوع ، ثم تغلظ ، ثم تضمر بعد مسافة أخرى ! * ذلك ما قصدته ؛ إن النخيل تؤرخ لحياتها ، و حياة من معها من البشر .. هذا هو تاريخ هذه البلدة .. أنت ترى أن هذه نخيل طويلة ، و معمرة ، و هذه الخصور هي تاريخ أزمنة القحط حيث مرت النخلة بفترة عطش و جفاف ! قال مستغرباً : * وكأنني أقرأ في كتاب ؟! * نعم . فالخصر الأول كان لبداية حقبة من السنين العجاف .. في تلك السنة هاجرت مياه الأرض إلى أماكن بعيدة ، و طارت الغيوم من السماء ، و غطتها طيور سود ، لم تكن معروفة في البلد ، و لا ندري من أين جاءت ، وكثر ذهاب الناس إلى المقابر لدفن الموتى ، وإلى المساجد لطلب الرحمة و ! الرجاء .. كانت النخيل هي من صمد : لقد شحت على جسدها بالقليل مما تجده من ماء ، و أعطته ثماراً للناس ، و بعد أن مرت الحقبة ، و جاء ما السماء عادت لتبني جذعها مستطيلة إلى السماء ، تاركة خصراً كالكي. وقف الابن طويلاً .. طويلاً ممسكاً برأسه ؛ كما لو وضع في طائرة لأول مرة .. التفت بعد مدة طويلة نحو النخل ، و أخذ يعد الخصور الضامرة : واحد ، اثنان .. وصلت إليه و هو يسجل في ذهنه الرقم السابع .. أمسكت بيده القاسية ، بدت كما لو كانت يد فلاح عاش في قسوة الأرض عشرات ! السنين .. كانت عيناه قد تهدلتا بفعل الزمن ، أما وجهه فكما لو كان وجه جده الفلاح .. حك رأسه الخالي إلا من شعيرات بيضاء ، ومشى! بي ، واهنا ، إلى حيث قبر النخلة . قال لي ، أو قلت له : في سنة كلها ليل : سماؤها تسطع في الظهر ، وأرضها تتطاير منها الرمال ، جلس الناس ينتظرون القطر وقد تأخر .. ماتت الضروع ، و لم يكن غير القليل مما يسد الرمق مما تجود به النخيل ، جدك كان يدور مع الفجر بين صفوف النخيل هذه ، دون أن يجد ماء ليسقيها ، كان يمشي بين الصفوف الطويلة ساهماً ، محدثا النخل ، شاكياً إليها : * الفرج قريب .. الخير قادم .. الغد يحمل البشرى .. كانت يده الخشنة تمسك جذع النخلة كما لو كان صديقه ، وكانت عيناه العميقتان تنظران إليها كما لو كانت بشراً .. و عندما يعجزه الكلام كان يفر إلى مكان قصي مخفياً دموعه القليلة عن نخيله .. و في الليل يظل يحدق في سعفها المتمايل و يقول لزوجته : * انظري إنها تدعو الله أن يجلب لنا الخير .. إنها مثلنا نحن البشر ! * لكن البشر هم سبب البلاء .. لقد عم الطمع ، وكثر الظلم بين الناس .. * ادعي ربك يا امرأة ! و يظل يحدثها من بعيد حتى تغيب عيناه في نوم قليل . * و ماذا بعد يا أبي ؟ * طال انتظار الناس كما لو كانت الشهور دهوراً ، و فتك الجوع بالسكان ، و ازداد الذهاب إلى المقابر .. و كان أولاد جدك يتضورون .. في البداية تحاشى سماع شكاواهم ، وأخذ يختصر الحديث مع زوجته أثناء اجتماعهم .. حتى وقعت الواقعة .. حيث اقتربت منه زوجته ، و هو جالس فوق فراشه ، و سمعت صوته الهامس ؛ فقالت في نفسها : ربما يناجي ربه ، أو يحدث نخلة ، لكن لابد من أن أحدثه . * مؤونتنا نفدت ، و نفد ما عند الجيران ، والموت يدخل من بابنا ! * الشكوى لله . * لابد أن نأكل أحدى النخل ! قذف بصرخة داوية كما لو كانت قذيفة مدفع ، و هم بصفعها : * أتريدين أن أذبح واحداً من أولادي ؟! * أو تريد أن أطبخ لأولادك النوى ؟! كان قلب المرأة خافقاً ، و انطلق هو إلى حيث النخيل .. تجنب الحضور إلى داره ليلاً أو نهاراً ، و كان ينادي من بعيد على أحد أولاده ليجلب له الماء ، و ما تيسر .. ظلت زوجته تراقبه من بعيد متدبرة أمر أولادها مع جاراتها . في الليل كان يجلس تحت جذع ( أم اليتامى ) ، و يظل في حديث هامس ، و هسهسة بكاء حتى يصلي في حوضها اليابس ، ثم يأخذه النوم .. مرات كثيرة كان يقوم و يمد يداه نحو النخلة و ينخرط في حديث طويل معها .. يناجيها ، و يلقي عليها قصائده كما لو كان عاشقاً ، ثم يحتضن النخلة ممتلئاً بالبكاء .. بعد ثلاثة أيام من السكن مع النخلة ، جمع أسرته ، ثم أقام دعاء طويلاً ضمنه اعتذاره لنخلته ، متحاشياً النظر إلى النخيل الأخرى .. كانت فأسه بجانبه ، أخذها ، و تساقطت من عينيه الدم! وع و هو يهوي على جذع النخلة كما لو كان يجتث قلبه .. قطعت النخلة ، و تكفل أولاده بتجريدها من سعفها و كربها و خلبها ، حتى بدا غ! لاف قلبها يلمع مع خيوط الشمس .. أمسك بيد زوجته ، و أوصاها أن توزع جمار النخلة على المحتاجين .. فكان أن قالت له أن الناس كلهم جياع ، فوبخها بعينيه ، أخذ أولاده الكبار و أحضروا الأحجار و صفوها بعناية فائقة على شكل مستطيل يحيط بالجذع ؛ ثبت الأحجار بالجص ، ثم غسل يديه ، و ذهب إلى داره ممسكاً بشماغه الجديد الذي يلبسه في أيام الجمع و الأعياد .. لفه حول عنق النخلة المقطوع ، و أهال بعض التراب على بقايا الجذور ، فبدت كما لو كانت دائرة صغيرة أكلتها النار ، انتحى جانباً و صلى مع أولاده! صلاة الضحى .. ثم قال لأولاده : * هذه الأم ، و هذا قبرها ، أوصيكم بالحفاظ عليه . ثم انتبذ نفسه إلى مكان قصي ، حيث لا تسمع الريح عويله . تلفت ابني الهرم إلى كل الجهات منصتاً إلى عويل الأيام الممتد عبر حقب تتلاحق كما لو أن الماضي يتكرر في أزمنة مختلفة ، و قادني إلى البوابة الطينية الواسعة ، المفتوحة أبداً *من موقع القصة العربية