في اللحظات الأولى لأخبار عملية حيفا حضر أمامي آلاف الشهداء الفلسطينيين، من مخيم البريج إلى ضحايا صيدا وصبرا وشاتيلا. في حيفا تطايرت الجثث وتناثرت الأشلاء وأحترق كل شيء في حافلة الركاب رقم 129 وأول ما خطر على بالي عندما رأيت صور العملية هذه دموع الأمهات والزوجات الفلسطينيات والآباء والأطفال الذين فقدوا ابناءهم واباءهم وأمهاتهم وزوجاتهم قبل عدة أيام في مخيمي البريج والنصيرات. كان بكاء الطفل الفلسطيني الصغير الذي قتل الغزاة أمه مع الجنين الذي تحمله في بطنها مازال حاضراً في دمي وعقلي وقلبي ووجداني وغضبي على عالم تحكمه القرود التي تزن بموازين مختلفة ولا تحرك ساكناً لموت امرأة مع جنينها لا شيء سوى لأن الغزاة أرادوا تدمير وتهديم منزل مجاور لمنزلها كانت نائمة وبقيت على نومتها أما جنود الجيش الإسرائيلي فقد عادوا ليناموا مرتاحين هانئين فقد قضوا على بضع نسوة وعجزة وأطفال في غزة وبهذا انتصروا على "الإرهاب" الفلسطيني في أسرته وبين علب الحليب ولعب الأطفال. كان بكاؤك يا طفل غزة أقسى من قنابلهم وأعلى من أي صوت يطالب شعبك بوقف كفاحه كان يتعالى نحيبك ليخمد صوت النشاز في وطنك وكنت تعلو وكانوا يتهاوون مع مشاريعهم المتهالكة فالبقاء لك ولجيلك الذي سيعيد للوطن حريته واستقلاله وبهاؤه أما النشاز فمكانهم ليس في مخيمك ولا في بيتك الوطني الجامع بل في جحيم الانتصار على الجحيم. في هذه اللحظات العصيبة والتي لا شك أنها أفقدت شارون وحكومته سلاحهم ذا الحدين إذ جاءت العملية في الحافلة المذكورة فور انتهاء الاحتلال من ترتيباته للحكومة الجديدة وبعد سلسلة مذابح وجرائم نفذها الجيش الإسرائيلي في فلسطينالمحتلة وبعد أن خرجت أصوات تطالب بوقف الانتفاضة وتشليحها من ثوبها الأصيل ثوب الكرامة والفداء والمقاومة وبعد أن تعالت تلك الأصوات وترافقت مع ضغط الاحتلال وتصلبه في كل شيء. في لحظات الخبر الأولى حضر أمامي آلاف الضحايا الفلسطينيين والعرب فشاهدت أطفال ونساء دير ياسين وكفر قاسم والمصلين في الحرم الإبراهيمي وشهداء تل الزعتر وصبرا وشاتيلا وبحر البقر وقانا ونابلس وجنين وكل فلسطين منذ النكبة حتى مذبحة البريج والنصيرات قبل أيام. جاء الشهداء من كل صوب جاءوا بثيابهم الممزقة والمحترقة والمهترئة والملونة بالدماء والملتصقة بالذاكرة كانوا ينشدون (منتصرون منتصرون ومنتصرون) لم أجرب حتى سؤالهم عن المنتصر أهو الشهداء أم الأحياء أم كلاهما معاً؟ أهو القاتل والمقتول أو الشعب المحتال أمن الشعب الفلسطيني المغدور والمغتال بفضل الدجل والعنصرية والاحتيال؟ لم أجرب أن أتكلم معهم أو أحاورهم فيما يعتقدون ولم أقترب منهم بقيت أراقبهم عن بعد وهم يشاهدون معي أخبار عملية حيفا لم أجد بينهم صديقي محمد الذي قتلته دبابة ميركفا في مخيم صبرا أيام المذبحة سنة 1982 وبالمناسبة مزقت جسدي لكنها لم تقتلني بل زادتني قوة لم ألتقِ بالطفل محمد ذي السنة الواحدة الذي مات بين يدي نتيجة إصابته بشظايا قذيفة إسرائيلية في صيدا سنة 1980 لم أرَ أمه التي أصيبت بنفس القذيفة ولا عمه صديقي الذي استشهد قبله بثلاث سنوات فقط لم أتعرف بينهم على رفقاء صباي محمد وعبدالرحمن ولا طارق والهشامين ولا عبد الستار الذي استشهد ويده ظلت ممسكة بمدفع الهاون الذي دوخ كريات شمونة قبيل عملية سلامة الجليل وفهد وحاتم اللذين استشهدا بغارة طائرات إسرائيلية في البقاع يوم إصابتي. وحسين ونادر وطلعت ومحمود وناصر وهدى وسناء ودلال وفاطمة وزينب والعشرات من أصحابي وأقربائي بالإضافة للأطفال من أبناء فلسطين في الوطن العربي الكبير. لم أجد الطفل حسام الذي بترت الطائرات الإسرائيلية يديه ورجليه في آن ولا الطفلة خديجة التي فقدت نور عينيها في النبطية لم أرَ أمي وجدتي وجدي وأبي وعمي وخالاتي وعماتي وكل من مات أو تهجر وتشرد وقتل حياً بسبب الاحتلال أو بفعله وبسبب قانون الغاب الذي يجيز لليهودي احتلال ارضي وبيتي وإعادة تأسيس نفسه في بلدي بينما أنا أحرم من أرضي وزرعي وبيتي ووطني وحريتي ومواطنتي. لم أر إلا الشهداء فرادى وجماعات يشاركونني المشاهدة ولا يشاركونني المناشدة ناشدتهم أن يعودوا إلى عالمهم كي لا تتنجس طهارتهم في عالمنا الذي أصبح كالجورب في قدمي بوش وكاللعبة بين يدي شارون. ناشدتهم أن يكفوا عن متابعة الأخبار فبعد هنيهات قليلة ستبدأ حملات الإدانة والتضامن مع شعب الله المختار وحكومته التي اختارها بكامل وعيه على الرغم من أنها تفتقد للحس الإنساني وللوعي السلامي فكل ما عندها مرهون بالعقلية التوسعية والاستيطانية والاحتلالية وبعظمة القوة ونشوة التفوق على الضحية. لكن كم من الضحايا ستبقى تسقط هنا وهناك حتى يعي المجتمع الإسرائيلي أن الانتفاضة الفلسطينية مصممة على الاستمرار ونيل الاستقلال والحرية وكنس الاحتلال؟ قلت لضيوفي الذين لم أدعهم لمشاركتي موجز الأخبار أن ما تبقى من الأخبار لا يعنيني لذا سأقفل التلفاز وأمضي إلى همومي المتبقية حاملاً هموم شعبي معي في حقيبتي الصغيرة وبين أضلعي. @ عن ميدل ايست اونلاين