اكاد اجزم بانني عاشق للاندلس اهيم غراما في امجادها. واطير سعادة وحبورا حينما اكون في ربوعها استمتع بسمائها التي استقبلت خلال ثمانمائة سنة (الله اكبر الله اكبر) ترتفع من مآذنها السامقة ومساجدها المهيبة وجامع قرطبة العظيم. احلم احيانا بانني اعيش في قرطبة بأزقتها وشوارعها الضيقة وسورها المحيط بها تحرسه تماثيل ابن رشد وابن حزم وابن ميمون وابن زهر.. رموز من الاف الرموز العلمية التي كانت تتخذ من جامع قرطبة واروقته زوايا يؤمها طلبة العلم من الاسبان المسيحيين والمسلمين واليهود في تآخ اسلامي رائع وتسامح اسلامي استقطب الناس من انحاء اوروبا ينهلون من العلم والثقافة الاسلامية ويدرسون شتى العلوم وكانت اللغة العربية وادابها هي مصدر تفاخر المثقفين من اوروبا. كما يتفاخر الناس الان بمعرفتهم اللغة الانجليزية او الفرنسية.. دخلت جامع قرطبة الكبير وبهرني شموخه وارتفاع اقواسه المزدوجة وقد منعت فيه الصلاة منذ زوال حكم المسلمين من الاندلس في سنة 1592م وحلت محلها النواقيس والكنائس لكنه ظل وسيظل برهانا على مجد المسلمين. وسيظل مصدرا اقتصاديا لاسبانيا حيث يؤمه كل يوم مئات بل الاف السائحين من شتى بقاع الارض. دخلته فاهتز كياني وتساقطت دموع عيني بل انهمرت في زخات مفجرة حزنا واسى على زوال ذلك المجد. وقفت مذهولا بين اعمدته التي تحكي لو تحدثت ذكريات الصلوات وذكريات الطلبة وعلمائهم وكأنني اتخيل اصواتهم وهم يتحاورون في شتى فروع المعرفة. هناك غرقت في بحر من الذكريات وكأن الاف السياح تحولوا امامي الى اولئك الطلبة الوافدين من انحاء اوروبا ليرتشفوا من ينابيع العلم والادب والفن. وناداني شخص وانا خارج من جامع قرطبة يتقن اللغة الانجليزية فاستوحشت منه وخشيت ان يبتزني، وقال لي هل انت عربي. وكان سؤاله مثيرا لمخاوفي. ولكنني رغم ذلك اجبته بنعم. قال لا تخف وانما ادعوك الى منزلي وكان على بعد خطوات من بوابة الجامع. واخبرت مندوب شركة السياحة الذي يصحب المجموعة مستئذنا اياه فقال لمدة خمس دقائق. وقلت اذا تأخرت فارجو تكرمك باشعاري في ذلك المنزل. سرت وجلا خائفا مع الشخص الذي دعاني. دخلت المنزل وكان طرازا عربيا 100 بالمائة اروقة تظلل مداخل الحجرات تتوسطها باحة غير مسقوفة في وسطها حوض ماء تنهال عليه المياه من نافورات جانبية صغيرة يعكس ماؤها ضوء السماء بنجومها الساطعة ويستقر في قاعها القمر. جلست على دكة مفروشة قبالة النافورة. واظهر لي كتابا مخطوطا باليا بدون عنوان ولا اسم المؤلف يتحدث عن تكاليف بناء الجامع وصيانته وقد تكالبت عليه الازمنة والحشرات فقلت لصاحبه هذا كتاب باللغة العربية. قال كان واحد من اجداده ايام المسلمين مسؤولا عن نظافة جامع قرطبة وصيانته وكان يسمى فلان (القيم) نطقها بالانجليزية (Qaym) وقال لي ارجو ان تزورني مرة اخرى. توجهت مع القافلة الى طليطلة ثم الى اشبيلية ثم الى (غرناطة). غرناطة وهنا القيت عصا الترحال حيث سنقضي فيها اربعة ايام ربما تكون كافية لسائح عابر ولكنني اشعر بأنني لست سائحا بل انني كنت اعتبر نفسي في بلادي التي انتمي اليها روحا وقلبا وعقلا وكيانا ولكنني كنت اخاطبها فاقول: غرناطة يا اجمل المدن لم اقفرت الحمراء من اهلها واصبحت يبابا. ان الريحان وازهار البرتقال لا تزال ترسل اريجها ين غرفها وفراشها الوثير، ولا تزال البلابل تصدح في مروجها الفيح ولا تزال اعمدة ابهائها تنتعش برشات الفوارات يتساقط عليها وتنعم بخرير امواهها كأنه صوت ام تدلل اطفالها فواحسرتاه. وسرت ماشيا من الفندق الذي استقر المقام به الى جنة العريف التي تطل من هضاب الجبال والتلال على قصر الحمراء مقر الحكم. آية من ايات الجمال الفني والعمراني. كانت لغرناطة منزلة قرطبة في انهاض الاداب والعلوم اثناء الهدوء السياسي فكان لبنائها ومهندسيها شهرة ذائعة في ارجاء اوروبا فهم الذين بنوا قصر الحمراء وهم الذين موهوا حيطانها بالزخرف الذهبي البديع وزينوها بالاشكال المصبوبة ذات الهندسة العربية الفائقة التي لاتزال الى اليوم موضع اعجاب الفنانين في اوروبا والعالم. ان غرناطة تفضل جميع مدن الاندلس جمالا وفنا وروعة. دخلت الى قصر الحمراء في بهائه وجماله وهندسته تحمل جدرانه النقوش الذهبية باحرف عربية وتتكرر جملة رائعة هي: "لا غالب الا الله" تعبر عن الايمان والاتكال على المولى سبحانه. ولكن الله سبحانه امرنا بالاستعداد والقوة حتى يرتدع المعتدي فقال تعالى: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم". ان قصة الاندلس عجيبة حقا مثيرة للنفس حقا فيها من احاديث البطولة والاقدام ما يعجب له العجب، يهتز له عطف العربي الكريم، فيها جرأة طارق واقدام عبدالرحمن الداخل وعزيمة الناصر وعبقرية المنصور وفيها الى جانب كل هذا امثلة رائعة للصبر حين البأس وللجلد على اشد المكروه وللتمسك بالعقيدة والسيف مصلت فوق الرؤوس وللثبات في مأزق يفر فيه الشجاع. (علي الجارم). ويقول ايضا: وتاريخ الاندلس كله عراك ونضال وصخب لاتكاد تقلب صفحة من صفحاته حتى تسمع قعقعة السيوف وصليل الرماح.. صراع بين ملوك المسلمين، وصراع بينهم وبين نصارى الشمال، وصراع بين الاجناس والقبائل وصراع بين العقائد والمذاهب ثم صراع اخير بين الحياة والموت وبين الاذان والناقوس. ان المسلمين بالاندلس اقاموا دولة استمرت ثمانية قرون وهم في ارض غير ارضهم وفي اقليم اجتمعت فيه كل صنوف الفتنة والجمال. وكان اعداؤهم من الاسبان يحيطون بهم من كل جانب واعداؤهم في المشرق ينصبون لهم الحبائل. ان العرب عاشوا في هذه الفتن ثمانية قرون قل ان تستطيع امة سواهم البقاء في مثلها ولنقرأ التاريخ. لم يبق للمسلمين غير غرناطة التي اغتبط اميرها ابو عبدالله اعظم اغتباط وتشفى في عدوه القديم عمه ابي عبدالله الزغل حينما هزمه فرديناند وصاح من الفرح حينما بلغه الرسول الخبر انه لا يقبل ان يلقبه احد بالزغيبي لان الحظ اقبل عليه بوجهه. هكذا فرح ابو عبدالله بهزيمة عمه وانتصار الاسبان. وكان عاقبة هذا التشفي من اقرب الناس اليه عاملا في زوال ملكه. وقف ابو عبدالله في ثلة من فرسانه بسفح جبل الريحان عند مرور موكب فرديناند وسلم اليه مفاتيح غرناطة الرائعة وعلى قرب منها اجهش بالبكاء وصاح الله اكبر فقالت امه عائشة: (حق لك يا بني ان تبكي كما تبكي النساء لفقد مدينة لم تستطع ان تدافع عنها دفاع الرجال ثم رحل الى المغرب العربي ليعيش على الاستجداء (فلا غالب الا الله).