أصبح من السهل رؤية منظر الاسفلت الأسود في شوارع بغداد، فالسيارات الملونة لم تعد تسير كثيرا في تلك الشوارع وخفت حركة الناس الذين يتوقعون ان تبدأ الحرب في غضون ساعات ويحددون موعدها بفجر الخميس او الجمعة، وما زاد مشاهدة اللون الأسود انقطاع التيار الكهربائي المتواصل عن المدن بسبب عواصف ضربت بغداد الأربعاء مثيرة غبارا كبيرا حدد الرؤية، بينما تحول الظلام البهيم في الشوارع الى صورة حرب عرفها العراقيون في حروب سابقة. صورة الحرب بدأت تتقمص كل شيء في الحياة العراقية بعد ان رفض العراق الاستجابة لمطالب بوش والتي أدرك العراقيون انها خدعة إذ سرعان ما أعلنت واشنطن اليوم ان مطالب بوش في خطابه الأخير حتى لو تحققت فإنها لن تمنع الحرب ، وهذا يعني في عرف العراقيين ان الحرب حتمية ولا معجزة لمنعها في زمان غياب المعجزات. ويبدو هذا الشعور بحتمية الحرب قد دفع العراق الى مواصلة تحديه للتهديدات الأمريكية لشن الحرب ضده بهدف تغيير نظام الحكم الذي يقوده الرئيس صدام حسين وإحلال نظام موال للغرب محله .. فقد أصدر المجلس الوطني العراقي (البرلمان) صباح الأربعاء وبعد جلسة طارئة بيانا شديد اللهجة أستنكر فيه بشدة الإنذار الذي وجهه الرئيس الأمريكي جورج بوش الى الرئيس العراقي بضرورة مغادرته العراق أو مواجهة الهجوم الأمريكي البريطاني الشامل وقدم المجلس دعمه للرئيس صدام حسين لمواجهة القوات الأمريكية التي تشن حربا ضد البلاد فيما خيمت أجواء الحرب على الشارع العراقي بأسره دون استثناء. فالمحلات والمكتبات والشوارع التي كانت تضج بالناس والحياة مقفرة والوجوه شاحبة، ويرى العراقيون ان الحرب ستدمر الكثير وتقتل الآلاف في حين يعاني العراق أصلا من دمار سابق، هذا ما قاله أستاذ جامعي كان يتسوق من الصيدلية الوحيدة التي ما زالت فاتحة أبوابها في الحي السكني الذي يقيم فيه يقول الدكتور مكي محمد 60 عاما وهو أستاذ في كلية اللغات (لم يكن العراقيون بانتظار هذه الحرب بعد حرب سابقة ساحقة و 12 عاما من الجوع والمرض والفقر بسبب الحصار الطويل الذي نشأت فيه أجيال لم تعرف طعم الكثير من الفواكه والشيكولاته التي تمتع بها غيرهم من الأطفال في العالم طيلة السنوات الماضية). قلق هذا الرجل يشاركه فيه اغلب العراقيين فوسط بغداد حيث سوق الشورجة اكبر أسواق العراق لبيع الجملة والذي لم يكن يخلو من مليون مواطن يزوره يوميا اصبح اليوم خاويا تنعق فيه الغربان وتنام فيه الكلاب على أعتاب المحلات المقفلة التي أفرغت من البضائع التي كانت تعج بها أصبحت الشوارع والأسواق خالية. الحركة الوحيدة التي يمكن مشاهدتها هي قرب المواضع القتالية التي ازدحمت بها أرصفة الشوارع فأفقدتها بريقها، والحفر والخنادق تنتشر في كل مكان وهناك رجال يرتدون الزي العسكري يتجولون قربها بانتظار ان تبدأ الحرب فيتخذون أماكنهم ويضغطون على الزناد إذا ما شاهدوا جنديا أمريكيا يمر أمامهم، وبعضهم الآخر يصوب سلاحه نحو السماء لمواجهة أي إنزال محتمل، والحديث بينهم عن سيناريوهات الحرب لا ينقطع فالجميع هنا يشعر ان الاحتلال او العدوان الغادر كما بدأ يسميه العراقيون اصبح قريبا وعليهم الانتشار وانتظار الإشارة لاطلاق النار. العراقيون استعدوا للمواجهة وقسموا مهامهم لمقاتلة الأمريكان هذا ما قاله وزير الاعلام العراقي محمد سعيد الصحاف امس في مؤتمر صحفي فقد أكد أن بلاده تدرس بعناية كبيرة إمكانية التعامل مع الضباط والجنود الأميركيين كمرتزقة خارجين على القانون .. محذرا هؤلاء ان حربهم مع العراقيين لن تكون نزهة. وأضاف الوزير العراقي الذي كان يتحدث للصحفيين: نحن ندرس كيف سننظر الى الضباط والجنود الأمريكان من الناحية القانونية الدولية باعتبار أن ما يقومون به ليس حالة حرب وانما عدوان, بل أن هذا الوصف قليل ..هناك جهات عديدة تدرس الآن هل يأخذون كمرتزقة أو وفق أية قوانين أخرى. صورة الحرب هذه التي بدأ يتحدث عنها العراقيون بدأت تظهر في مدينة البصرة اكثر من أي مكان آخر فقد أصبحت المنطقة بين العراق والكويت بعد رحيل القوات الدولية خالية واصبح الجنود الأمريكان في مواجهة الجنود العراقيين وكلا الطرفين ينتظران الإشارة للضغط على الزناد فيما خلت شوارع البصرة من الناس والسيارات ويعتقد الناس ان الحرب بعد ساعات لا أكثر ، يقول مصطفى عبد الله صاحب أسواق في البصرة: لقد أقفلت محلي ونقلت بعض المواد الى المنزل وهي قليلة فقد بعت معظمها، ونحن بانتظار ان تبدأ الحرب ، ولكن سيحمي الله مدينتنا ، ونعتقد ان خسائر الأمريكان ستكون كبيرة إذا دخلوا المدينة فكل شيء مهيأ لمواجهتهم. وحدهم الأطفال الذين لا يعرفون ما هي الحرب يمزقون هدوء المدن بأصواتهم فاستعدادات الحرب رغم قوتها لم تمنع الأطفال طيلة صباح الأربعاء من ممارسة الألعاب قرب منازلهم ولعل اكثر الألعاب المحببة إليهم اليوم هي لعبة الحرب والاختباء وقد أثارت المواضع القتالية والحفر والخنادق قرب البيوت شهية الأطفال للعب فيها او قربها ، وعلى كل حال فان الآباء يرغبون ان يتعرف أبناؤهم على الحرب او يسمعوا عنها كي لا تتحول الى صدمة لهم مع اشتداد نيرانها.