تكاد تجمع الأدبيات التي تناولت مفهوم (الشرعية) على إنها نتاج للفكر السياسي لما بعد العصور الوسطى وإنها بصورة عامة تتمحور حول مفهومين أساسيين هما (السلطة) و (الحق) وبمصادرها الثلاث التي حددها ماكس فيبر (التقاليد) و (القانون) و (الشرعية)، إضافة إلى مصدر رابع أضيف لاحقا ألا وهو أداء (النظام السياسي). ... وإذا ما انتقلنا بالقضية إلى مجال العلاقات الدولية فنحن أمام مفهوم يعني باختصار شديد الامتثال للارادة الدولية التي تجسدها قرارات الأممالمتحدة، وكم المعاهدات الجماعية والثنائية المعقودة بين الدول لتنظيم ظاهرة سياسية- دولية معينة، وبالتالي فان منظومة الأممالمتحدة بميثاقها وبمؤسساتها المتعددة ابتداء من الجمعية العامة التي تضم في عضويتها كل دول العالم وصولا إلى مجلس الأمن الذي يجسد الرمز الواضح للشرعية الدولية، إضافة الى محكمة العدل الدولية، ومحكمة جرائم الحرب والاتفاقيات الأخرى تعتبر بلا أدنى شك الروح والإطار العام للشرعية الدولية التي نتحدث عنها. اما القانون الدولي الذي يعتبر الركيزة الأساسية للشرعية الدولية فان مواده تنص بوضوح لا لبس فيه على تحريم (اللجوء للقوة) كسبيل وحيد لحل النزاعات الدولية، داعية المجتمع الدولي الى ضرورة التصدي لأي عدوان يقع على أي عضو في الأممالمتحدة، وبالتالي فان حل النزاعات والخلافات الدولية يفترض له ان يكون (عقلانيا) ومن خلال الحوار والنقاش والتفاهم وليس من خلال أصوات المدافع. إلا إن الملاحظ أن الولاياتالمتحدة تصر (عامدة متعمدة) على إدخال مفهوم (الشرعية الدولية) في غياهب (الغموض) و (الانتقائية) تماما كما فعلت بمفهوم الإرهاب من قبل، فهي لم تكتف بتفسيرها مواد القانون الدولي كما يحلو لها، بل نراها تسخر قرارات الأممالمتحدة لخدمة أهدافها ومصالحها بأسلوب فج استفزازي لا يقيم لوجود الآخرين وزنا، أو ادنى اعتبار، وهذا ما يفسر إعلانها الحرب على العراق الدولة العضو المؤسسة للأمم المتحدة ضاربة عرض الحائط بكل وجود للامم المتحدة ودورها ومكانتها، ومبادىء القانون الدولي العام مما يعطي دلالات واضحة على أنها تسير قدما في هدم حالة التوافق التي سادت العالم في النصف الثائي من القرن الماضي، وبالتالي العودة إلى المزاج الانتقامي الذي يعيد العالم قرونا إلى الخلف لتسود (شريعة الغاب) بدلا من (الشرعية الدولية) على انني يجب أن استدرك هنا لأوكد، أن هذا السلوك الأمريكي لم (يأت من فراغ) بل من (سوابق) تمثلت في ذلك التحدي السافر لحليفتها الاستراتيجية (إسرائيل) لكل قرارات الشرعية الدولية التي سبق لها وان صدرت تباعا من مجلس الأمن الدولي وقديما قيل (القرين بالمقارن يقتدي). لقد رصد مركز غزة للحقوق والقانون 23 قرارا دوليا صادرا عن الأممالمتحدة ومجلس الأمن الدولي منذ عام 1947م بشأن القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني، غير أن إسرائيل ضربت عرض الحائط بكل تلك القرارات، ولم تلتزم بأي منها متحدية جهارا نهارا الشرعية الدولية وخارجة بذلك على الإجماع الدولي، وهو ما تفعله الولاياتالمتحدة الآن، ومن أمن العقوبة أساء الأدب. لقد مزقت وأخمدت الترسانة العسكرية الأمريكية - البريطانية المتواجدة الآن على ارض العراق بأصوات مدافعها التي لم تسكت ليلا، أو نهارا منذ أن دخلت أرضه متذرعة بأسباب واهنة وهانة بيت العنكبوت كل صوت للشرعية بعد ان أصرت ليس على تجاوز مجلس الأمن، وإنما وجدنا أركان حكومتها يصوبون (نيران ألسنتهم) على المنظمة الدولية متهمينها - كما ورد على لسان الجنرال كولن باول وزير خارجيتها - بالعجز وعدم الفعالية لا لشيء سوى مطالبة بعض أعضاء مجلس الأمن الدولي بضرورة (إعطاء وقت) لمعرفة مدى التزام العراق بقرار الشرعية الدولية 1441. على ان المثير للعجب - ولن أقول للسخرية - هو أن الولاياتالمتحدة التي ضربت (عرض الحائط) بكل قرارات الشرعية الدولية عندما تجاوزت مجلس الأمن، وقررت تطبيق القانون بطريقتها (الخاصة جدا) ومن خلال فهم جنرالاتها له، نراها اليوم بعد أن دخلت (المستنقع العراقي) تنادي بضرورة تطبيق هذه الشرعية وبالذات اتفاقية جنيف بشأن أسرى الحرب على جنودها في الوقت الذي تضرب فيه القناة العراقية في خرق واضح للاتفاقية التي تدعو العراق الى ضرورة الالتزام بها. إن السلوك الأمريكي هنا هو ليس بالسلوك الجديد، كما انه ليس لحقبة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، فطالما تربص (الفيتو الأمريكي) بالكثير من القرارات التي صدرت مدينة الممارسات الإسرائيلية في الأراضي العربية المحتلة. وعليه نستطيع القول إن (الشرعية الدولية) من المنظور الأمريكي هي (حالة انتقائية) كما أن آلية تنفيذها تخضع بالتالي (لمزاجية) هذا القطب الذي تربع على عرش العالم من خلال ما يسمى بالنظام العالمي الجديد، فالمبررات التي تسوقها الإدارة الأمريكية في حربها على العراق مبررات غاية في السذاجة والتناقض. الحكومة الأمريكية تصاب بحالة من (الصمم) و (العمى) حينما تسمع وتشاهد إسرائيل تقوم جهارا نهارا بانتهاك مبادىء الشرعية الدولية بحق الشعب الفلسطيني، وتقيم الدنيا ولا تقعدها على العراق بدعوى انه قد يطور أسلحة دمار شامل أو هناك شك في وجود مثل هذه الأسلحة، أما في الحالة الإسرائيلية فالوضع مختلف. إسرائيل تملك من كميات أسلحة الدمار الشامل ما يمكن أن يؤدي إلى دمار شامل لمنطقة الشرق الأوسط بكاملها، كما إنها ترتكب يوميا جرائم ضد الإنسانية مع شعب أعزل، ومع ذلك لا نسمع من الإدارة الأمريكية التي تتباكى اليوم على الشرعية الدولية صوتا أو حتى (همسا) يستنكر الفعل الإسرائيلي. وماذا عن أسرى أفغانستان الذين أودعتهم في معسكرات (جوانتناموا) خارج الحدود الإقليمية الأمريكية حتى لا ينطبق عليهم القانون الأمريكي ناهيك عن رفضها التوقيع على اتفاق محكمة جرائم الحرب، والتي هي جزء من المنظومة العامة للقانون الدولي؟ (وللحديث بقية)