أعد مجلس الأمن القومي في الشهر الفائت وثيقة مفصلة تحلل "الأبعاد الاقتصادية لحرب محتملة في العراق سوق النفط، الاقتصاد العالمي والاقتصاد الاسرائيلي"، وتتكون الوثيقة من أربع وعشرين صفحة، مقلقة جدا، لجميع السيناريوهات الاقتصادية المحتملة في العالم، في المنطقة وفي الدولة مقابل ثلاث نتائج محتملة للحرب. والسيناريو الأول النصر السريع. حرب خاطفة تستمر ما بين أربعة الى ستة أسابيع، نصر أميركي بريطاني ساحق، خسائر محتملة، إقامة نظام حكم مؤقت وبديل في العراق، عدم تضرر آبار النفط، لا إرهاب ولا خطر على أنظمة الحكم في الدول العربية المجاورة. والسيناريو الثاني انتصار تدريجي، حرب مستمرة تتراوح ما بين ستة الى اثني عشر أسبوعا، خسائر كبيرة، عمليات ارهابية، تكلفة عالية وخطر معين يهدد الاستقرار الاقليمي. والسيناريو الثالث وهو الأكثر تشاؤما. حرب تستمر بين ثلاثة الى ستة شهور، والتورط في قتال واسع داخل المدن، وحرب عصابات، خسائر كبيرة، عدم استقرار سياسي في المنطقة، عمليات إرهابية في أرجاء العالم، هجمات عراقية على منشآت النفط وأهداف اخرى بوسائل الدمار الشامل، ونجاح صدام في البقاء طوال هذه الفترة في سدة الحكم. والى ما قبل أسبوع كان من الصعب العثور على خبراء يقامرون بالمراهنة على الخيار الثالث، الأكثر تشاؤما. ولكن الحرب نشبت. ولمزيد الأسف، فعلى الأقل في هذه المرحلة تبدو كما لو أنها تسوية بين السيناريو الأوسط والسيناريو المتشائم. فالعراقيون لم يستسلموا، والأميركيون لا يركضون. وصدام حي وتقارير التلفزيون البغدادي المقصوف ما زالت تشاهد، بين الحين والآخر، وهي أكثر وثوقية من معلومات شبكة "فوكس" مثلا. وفي نهاية المطاف سوف ينتصر الأميركيون في هذه الحرب (وإلا فان علينا الشروع بحزم الحقائب)، والسؤال هو ما تكلفة ذلك (ومن سيدفع التكلفة) وما آثار ذلك. ومن الجائز أن "اليوم التالي" للحرب سيكون وبخلاف كل التوقعات، يوما طويلا، أسودا وقاتما لإسرائيل والغرب، فالصمود العراقي، والمقاومة الشديدة من جانب السكان (حتى بعد سقوط صدام) وعدم ضبط أسلحة دمار شامل، وانتفاضة ضد الأميركيين والبريطانيين وتقويض الاستقرار في الاردن، مصر والسعودية ستحول العالم بعد الحرب الى عالم أكثر سوءا، أشد تطرفا وأقل أمانا من عالم ما قبل الحرب. إختفاء القصف وعودة الى تكهنات مجلس الأمن القومي: فالسيناريو المتشائم هذا (الذي لم يتحقق بعد) يوجه ضربة للاقتصاد العالمي ويوقع كارثة اقتصادية بنا. وهذا يبدأ بارتفاع أسعار النفط الى سبعين دولارا للبرميل، الأمر الذي يؤثر على النمو العالي: إذ سيبشر عام 2003 بتباطؤ فعلي في نمو الكتل الكبرى خاصة في الولاياتالمتحدة وأوروبا، تزايد البطالة في الولاياتالمتحدة بحيث تصل الى سبعة او ثمانية في المئة وحدوث أزمة اقتصادية عالمية. والاقتصاد الاسرائيلي الذي يعيش أزمة عميقة ومستمرة، سيواجه ضربة قاسية أخرى: زيادة معدلات البطالة، انخفاض حاد آخر في معدل النمو، تطور محتمل لأزمة مالية. وجاء في الوثيقة أنه "في إطار البدائل المتطرفة من الجائز نشوء حاجة لإدارة الأزمة عن طريق انتهاج تدابير غير تقليدية... ويمكن لمساعدة أميركية مكثفة ان تسهل علينا مواجهة هذه الاوضاع، ولكن لا ريب أنه ستكون هناك أهمية حاسمة لنوعية ومصداقية القيادة الاقتصادية وتعلم التضامن والاستعداد للمشاركة في تحمل الأعباء من جانب الجمهور". ويتابع خبراء مجلس الامن القومي القول أن التكهنات المتشائمة "ستترافق مع فقدان الثقة، وخروج مستثمرين ماليين وحقيقيين من دائرة الاقتصاد، الامر الذي قد يقود الى مساس خطير بالأنظمة الاجتماعية وفي وحدة وقدرة الجمهور الاسرائيلي على الصمود". وتبدي الوثيقة تقديرها بأن من الجائز ان تحتاج إسرائيل الى "مساعدة طارئة" من الولاياتالمتحدة من أجل الصمود في هذه الازمة، ولكن ليس من الواضح ان كان الأميركيون مؤهلين لتقديم مثل هذه المساعدة (إذ من الجائز ان يكونوا أنفسهم بحاجة إليها: فهذه الحرب، بخلاف حرب الخليج، ملقاة بكاملها على كاهل مكلفي الضرائب الاميركيين). وتقول الوثيقة أيضا ان استمرار خطر الارهاب على إسرائيل والجمود السياسي إزاء الفلسطينيين يشكلان، بذاتهما، ثقالة معلقة في عنق الاقتصاد الاسرائيلي تشده الى الأسفل، الى الأعماق. تذكير: كل هذا لم يحدث بعد، والانهيار العراقي قد يحدث اليوم، غدا، في الاسبوع القادم، دفعة واحدة وبشكل جارف. ومع ذلك، وعلى الأقل الآن، لم يحدث هذا الانهيار. والأميركيون وعدوا بعملية "صدمة وترويع" "يذكرها التاريخ" ولكنهم لم يفوا بوعدهم. وقد أثير في المؤسسة العسكرية الاسرائيلية هذا الاسبوع السؤال التالي: لماذا جرى تغيير خطة الحرب الاميركية. وأين اختفت عمليات القصف المكثف المفترض ان تقوض أسس النظام العراقي خلال ثلاثة أيام. وما الذي جرى لكل قادة الألوية الذين تبادلوا مع الأميركيين الأسرار والدولارات وكانوا على استعداد للاستسلام عند بدء المعارك. وأين التمرد الكبير. ولماذا لا تتحمس الجماهير المحررة لاستقبال محرريها. ما الذي تشوش هنا في كل الاتجاهات. بلير يضغط صدام حسين على قيد الحياة. ومن الجائز ان هذا موضع الألم. فهجمة "الصدمة والترويع" تأجلت لتحين فرصة استخبارية لمرة واحدة لتصفية صدام وإبنيه في ملجأ في بغداد. وضرب الأميركيون الملجأ فجأة. وقد تبددت في الهواء تصريحاتهم حول ضرب قيادة النظام العراقي. وتشير التقارير الاستخبارية الجديدة الى إصابة قصي صدام حسين ربما. وهذا ما أغضب صدام. وتثبت الفحوصات التي أجريت لأشرطة الفيديو التي بثها التلفزيون العراقي ان المتحدث هو صدام حسين حقا. والصوت هو صوت صدام حسين، كما أن اليد التي تتحرك هي يده أيضا. وفي كل حال، فإن الهجوم المفاجئ على الملجأ أجّل "الصدمة والترويع" ليوم واحد على الأقل، وبعد ذلك بشكل دائم. والأميركيون الذين ظنوا أن صدام أصيب، قرروا انتظار رؤية الآثار الدقيقة قبل ان يرسلوا قاذفات القنابل. وفي هذه الأثناء وقعت الحرب البرية. فالخشية الأميركية من إصابة شاملة للمدنيين، بالترافق مع تقدم القوات البرية أديا الى تلاشي وإلغاء "الصدمة والترويع" عمليا. وبدلا من ذلك حصلنا على "مفاجأة" في الجانب الاميركي أساسا. والترويع الوحيد على الارض هو المدنيون والجنود وفدائيو العراق الذين لم يستوعبوا حقيقة أنهم على وشك التخلص من ربقة صدام حسين. وهذا الترويع يواصل تغذية المقاومة العنيدة، المفاجئة، المزعجة للعراقيين ضد محرريهم. وفي الوضع القائم، من الصعب على المؤسسة الأمنية الاسرائيلية انتقاد الاميركيين. صحيح ان وعودهم المفرطة في كل ما يتصل بغربي العراق لم تتحقق بعد. وبحسب الخطة، فان الخطر العراقي من المفروض أنه كان سيتبدد خلال ثلاثة الى أربعة أيام. وها قد مرت ثمانية أيام ونحن نتحدث عن استمرار حالة الطوارئ الى وقت طويل. صحيح ان الخطر الجوي اختفى. وأن المشكلة كانت وما زالت في غربي العراق. والسيطرة على مناطق إطلاق الصواريخ لم تكتمل بعد وفي ضوء افتقار أميركا وبريطانيا حاليا للقوات البشرية ليس من الواضح متى ستكتمل. صحيح ان طائرة تجسس من طراز "جيستار" أميركية تحوم في السماء وتبذل جهدها لاكتشاف أي حركة كانت على المحاور في المناطق المعدة لإطلاق الصواريخ، غير ان ذلك لا يكفي. وفي المرحلة الحالية ليس ثمة خطر فعلي لإطلاق صواريخ على إسرائيل. وصدام حسين يلعب وفق قواعد اللعبة. وهو حتى الآن لا يتصرف بمزاج انتحاري. وباتت إرادته للبقاء أقوى. وهو يضرب الاميركيين ويستخدم العالم ضدهم. والسؤال هو ماذا سيحدث عندما يتغير كل ذلك. عندما يتبين له، في مرحلة معينة، ان هناك حدودا لكل حيلة. عندما يتم تدمير الحرس الجمهوري. عندما يشرع مشاة البحرية في التقدم في شوارع بغداد. هل سيشهد صدام حسين حينها دخول التاريخ أم سيحشر في التاريخ فقط في اللحظة الأخيرة وعبر البوابة الخلفية؟ على ما يبدو لن يحدث ذلك. ولكن لن نستطيع معرفة الأمر على وجه اليقين قبل ان نصل الى هذه المرحلة. والتطور الذي لا يقل إزعاجا يحدث في الجانب السياسي. وكلما اقترب السيدان بوش وبلير تقترب خريطة الطرق بصيغتها الاصلية من القدس ورام الله. وفي مأدبة عشاء في بيت السفير الاسرائيلي في لندن والتي أقيمت الاسبوع الفائت، تحدث أحد مقربي بلير عن أن "اسرائيل وبريطانيا تتحركان في مسار تصادمي". وبلير يقع تحت تأثير غير محدود من جانب اللورد مايكل ليفي الذي يحتقر حكومة اسرائيل الحالية (خاصة بعد خروج شمعون بيريز منها) ويضع في رئيس الحكومة البريطانية إحساسا بالرسالية المقدسة. فالرئيس الاميركي، يمكن ان يخضع للضغط البريطاني المتعاظم في كل دقيقة. ويصف مسؤول كبير في ديوان رئاسة الحكومة ما حدث في قمة جزر الأزور بين بوش وبلير (ورئيس الحكومة الاسبانية خوسيه ماريا أزنار) بالكلمات التالية: "تقريبا كاد بلير أن يضرب بوش فعليا، أثناء محاولته إقناعه بأن ينشر فورا خريطة الطرق بصيغتها الاصلية". وكلما مر الوقت تزايد الاعتماد المتبادل للزعيمين وتقلصت قدرة المقاومة لدى الرئيس الاميركي. وفي مرحلة معينة سوف تتغلب تعهداته لبلير على التزاماته لشارون. ومن الجائز أن هذه ستكون اللحظة التي يصل فيها الاميركيون الى هنا ليوضحوا لنا، مع جزرة كبيرة باليد وهراوة أكبر باليد الاخرى، أنه ليس هناك خيار آخر. في هذه الأثناء تلعب رئاسة الحكومة، تحت إشراف دوف فايسغلاس وإفرايم هاليفي، لعبة الشيء ونقيضه، لعبة القط والفار مع الأميركيين. وكل تصريح لبلير حول خريطة الطرق تدفع رئاسة الحكومة الى عمل شيء لتقليص الأضرار. ولكن هذا الحبل من المفترض ان ينقطع في وقت ما او أن يتحول الى حبل مشنقة. عن معاريف الإسرائيلية