قبل الحديث عن الوضع الدولي لمدينة القدس، بعد الاحتلال الإسرائيلي لها، لا بد من الإشاراة -بداية- إلى الوضع القانوني الدولي، الخاص، الذي ظل يحكم المدينة. فقد ظلت المدينة محكومة بالقواعد الخاصة بحماية الأماكن المقدسة، التي أوردتها العديد من الاتفاقيات والمواثيق الدولية, منها، على سبيل المثال، اتفاقية "لاهاي" لعام 1954 بشأن حماية الممتلكات الثقافية والدينية في أثناء المنازعات المسلحة؛ والإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948 (,,, وهما الممهدان الدوليان للحقوق المدنية والسياسية، وللحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الصادران عام 1966). كذلك، يأتي الملحقان الاضافيان لاتفاقيات جنيف الأربع (الموقعان عام 1977)؛ واتفاقية فيينا لعام 1983، بشأن خلافة الدول في الممتلكات، التي أضفت حماية قانونية خاصة على المقدسات الدينية. هذا فيما يتعلق بالوضع القانوني الدولي الخاص، الذي يحكم مدينة القدس. أما فيما يخص وضع المدينة، كمدينة ذات طابع ديني متميز، لكونها تضم المقدسات الدينية وأماكن العبادة لكل من المسلمين والمسيحيين واليهودفقد ظلت المدينة، وعبر مراحل تاريخها المختلفة، مفتوحة دائما أمام الجميع من أتباع الديانات السماوية الثلاث,,, فمثلا، بناء على معاهدتي: باريس (عام 1856)، وبرلين (عام 1878)، بين الدولة العثمانية والدول الأوروبية، اللتين تم التوكيد فيهما على ما تضمنه الفرمان العثماني (الصادر عام 1852)، بشأن: "احترام كل طائفة دينية في الاشراف على أماكن عبادتها في القدس",,, أيضا، تم تأكيد الحقوق نفسها في "صك الانتداب على فلسطين"، وعلى ألا يتم تغير الوضع القائم في المدينة إلا بموافقة جميع الأطراف. أما فيما يتمحور حول قواعد القانون الدولي بشأن الاحتلال العسكري,فإن هذه القواعد، لا تخول دولة الاحتلال إلا سلطات محدودة من أجل تمكينها من إدارة الاقليم الخاضع لها,,, وهذا يعني، ضمنيا، بطلان أي اجراءات تشريعية أو ادارية تقوم بها سلطات الاحتلال لتغير الأمر الواقع في الاقليم المحتل، وهو ما ينطبق بطبيعة الحال على الوضع في مدينة القدس. في اطار هذه الأمور الثلاثة,,, فقد أضحى القرار الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة (29 نوفمبر 1947)، الشهير بعنوانه: "قرار التقسيم"، والشهير برقمه: ",,181". (أضحى) المظلة الدولية القانونية لمستقبل فلسطين بعد انتهاء الانتداب البريطاني (في: 15 مايو 1948). وبناء على قرار التقسيم هذا، كان من المفترض أن تقسم فلسطين إلى ثلاثة أقسام: قسم تنشأ عليه دولة فلسطينية، وقسم تنشأ عليه دولة يهودية,,, ثم يأتي القسم الثالث: القسم الذي- كان مفترضا أن- يقام عليه كيان منفصل، يخضع لنظام دولي خاص، وتتولى الأممالمتحدة إدارته, ويتألف هذا "الكيان" (الخاص)، من مدينة القدس، التي تشتمل حدودها على: "بلدية القدس الحالية، مضافا، اليها القرى المجاورة، وأبعدها شرقا أبوديس، وأبعدها جنوبا بيت لحم، وابعدها غربا عين كارم، وتشمل معها المنطقة المبنية من منطقة قالونيا" (,,, تم تحديد هذه المشتملات في خريطة ألحقت بقرار التقسيم). إلا أن هذا "النظام الدولي"، أو "تدويل القدس" بالأحرى، لم ير النور لمعارضة كل من البلدان العربية وإسرائيل له,,, ولم ينفذ من قرار التقسيم، إياه، إلا الجزء الخاص ب "إقامة الدولة اليهودية"، وهي الدولة التي قامت على رقعة أكبر مما ورد في القرار، ومحتلة من القدس كل ما يعرف ب "القدس الغربية"، أي: القسم الأكبر من القدس. وأما الدولة الفلسطينية، فلم تقم أساسا,,, وتوزعت بقية الأراضي الفلسطينية بين الأردن: الذي ضم اليه الضفة الغربيةوالقدسالشرقية (أي: القدس التاريخية داخل السور، قدس المقدسات)، وبين مصر: التي أصبحت مسؤولة عن إدارة قطاع غزة، وبين سوريا: التي أصبحت مسؤولة عن منطقة الحمة. وهكذا، نشأ وضع "قانوني/ واقعي" في فترة ما بين الحربين "1948- 1967"؛ فتوزعت السيادة على مدينة القدس بين اسرائيل والأردن,,, ولم يعد قرار التقسيم، بالنسبة إلى القدس، واردا لدى أي من الفريقين العربي والاسرائىلي. وفي 7 يونيو 1967، احتلت اسرائيل مدينة القدس بأكملها، عقب عدوانها الذي بدأ في 5 يونيو من العام نفسه,,, وفي أغسطس عام 1980، أقدمت اسرائيل على ضم القدسالمحتلة، واعتبرتها عاصمتها الموحدة. وإذا لاحظنا تاريخ الضم، ضم اسرائيل لمدينة القدس؛ وكذا، تاريخ ما أقدم عليه الكنيست الإسرائيلي من تشريع القانون الأساسي، الذي فحواه: أن القدس عاصمة إسرائىل، حيث نصت المادة الأولى منه على أن: "القدس الكاملة والموحدة هي عاصمة إسرائيل" (30 يوليو 1980)، وهو "القانون/ التشريع"، الذي قام على أساسه الضم,,, نقول: إذا لاحظنا هذا وذاك، يتبدى واضحا أن اسرائيل: وإن كانت، خلال سلامها مع مصر، تخفي مطامعها في تكريس ضم القدس نهائيا وتوحيدها تحت السيادة الإسرائيلية؛ فإنها، فيما يبدو، لم تعد تجد حاجة لإخفاء شيء بعد التوقيع على المعاهدة "المصرية- الإسرائيلية" (في: 26 مارس 1979). واستنادا إلى قانون الكنيست المشار اليه، أصبحت اسرائيل تعتبر السيادة الكاملة على القدس حقا لها، لا ينازعها فيه أحد، ضاربة بعرض الحائط القرارات التي صدرت عن مجلس الأمن: إما تحذيرا لها من مغبة اتخاذ قرار كهذا (القرار رقم 476)، واما استنكارا للقرار الاسرائيلي واعتباره باطلا وفقا ل "الشرعية الدولية" (القرار رقم 478). والواقع، ان هذه لم تكن المرة الأولى، التي تضرب فيها اسرائيل بعرض الحائط، القرارات الدولية، إذ، يمثل قرار اسرائيل باتخاذ القدس عاصمة أبدية لها، تحديا صارخا للشرعية الدولية وقراراتها,,, وفي مقدمتها: القرار رقم 250 لعام 1968، والقرار رقم 253 لعام 1968، الذي اعتبر جميع الاجراءات الادارية والتشريعية التي قامت بها اسرائيل- بما في ذلك مصادرة الأراضي والأملاك- التي من شأنها أن تؤدي إلى تغيير في الوضع القانوني للقدس، اجراءات باطلة. رغم ذلك، وبالرغم من عدم اعتراف كل الدول- تقريبا- بالقرار الاسرائيلي، بضم القدس وتوحيدها وجعلها عاصمة موحدة لها,,, إلا أنه مع مرور الزمن، فقد توالت عملية نقل السفارات والبعثات الديبلوماسية من تل ابيب إلى القدس, بل، حتى جاء اليوم الذي ذهبت فيه أدراج الرياح رسالة الرئيس المصري انور السادات إلى الرئيس الأمريكي جيمي كارتر بشأن القدس، ثم طمأنة كارتر له في خطاب وجهه اليه. ,,, جاء في هذا الخطاب (22 سبتمبر/ 1978)، أن: "الموقف الأمريكي من القدس هو عدم الاعتراف بالإجراءات لتغيير موقع مدينة القدس". لكن موقف الولاياتالمتحدة قد تغير، وذلك حينما اتخذ مجلس الشيوخ الأمريكي قرارا ينص على "اعتراف رسمي بالقدس عاصمة لاسرائيل، مع الزام الحكومة الأمريكية بنقل سفارتها إلى القدس". وأيا كان الأمر، فإن التساؤل الذي يفرض نفسه، هنا، هو: إذا كانت كافة الاجراءات التي اتخذتها اسرائيل، كانت قد تمت بالمخالفة مع الاحكام العامة للقانون الدولي، بل وبمخالفة صريحة لقرارات صادرة من مجلس الأمن، وكذا بالمخالفة مع قرارات صادرة من الجمعية العامة للأمم المتحدة,,, (إذا كان ذلك كذلك) فما هي امكانات التحرك العربي استنادا إلى القانون الدولي؟! ,,, وإذا كانت جميع هذه القرارات الصادرة عن المنظمة الدولية، هي- في حقيقتها غير ملزمة؛ فهل من المفيد، مثلا، اللجوء إلى محكمة العدل الدولية، لطلب فتوى قانونية دولية حول عدم شرعية الاجراءات التي اتخذتها اسرائيل؟! ثم، هل من المضمون أن تكون هذه "الفتوى" (القانونية) واضحة وحاسمة؟!,,, وهل لها صفة ملزمة، أم انها مجرد رأي استشاري من قبل المحكمة الدولية؟! ومن الذي يستطيع أن يطلب مثل هذا الرأي (الاستشاري)؟!,,, إذ ان الدولة لا يمكن، بحكم النظام الأساسي، أن تطلب فتوى, الدولة يمكن أن تكون طرفا في نزاع, ولا يمكن عرض الصراع بين "العرب,,, وإسرائيل" على محكمة العدل إلا في الجوانب القانونية وحدها؛ وبموافقة الطرفين. ورغم ان الاجابة عن هذا الأمر، ابتداءً، هي أنه أمر لا يمكن أن يتحقق,,, إلا أن التساؤل يظل مطروحا: هل ثمة جدوى حقيقية في الالتجاء إلى الفرع "القانوني/ القضائي" للأمم المتحدة، وهو محكمة العدل الدولية (؟!) الرأي العام الكويتية