مرت الريح تقرض الرمل وحبيبات الحصى. تنثر الوريقات بعيدا بعنف. اعوام مرت على ذات الارض والريح تحاول ان تمسح آثار خطوها العالق في ذاكرته قبل المكان. كان قد تسمر في مكانه وكأنه لن يفارق هيئته هذه وهو يجلس جامدا كحجر القي به هناك ليواجه ارجوحة قديمة تراقصها الريح وكأن حياة مازالت تبض فيها. يتنفس بعمق رائحة الماء الذي حمل وجه وهج البدري بعيدا حيث لا يعلمون. ها هي الشمس تنتحر شيئا فشيئا لينفض غباره ويجوب ذات المكان وكأنه يبحث عن قنديل ليشعل به هذه الظلمة، مازال المكان باردا كالسابق الا ان بيته القديم اصبح نتوءات كأسنان عجوز نخرها السوس. وقف عاجزا امام ذلك البيت يتذكر كل ما لن يعود، استعاد كل الضجيج الذي افتعلته تلك الارواح التي تناست مع الضحك رغم كل الفقر الذي كان يسكنها. تذكر والده الذي كان يضحك مع امه على كل بشارة بحمل جديد آه يا هذه مازلنا ننسل والفقر اصبح اكبر صغارنا. تقدم قليلا من البيت القديم ليطل بأنفه من خلف الجدار الذي يكشف خلفه عن سواد لبقايا مطبخ قديم، يغمض عينيه وهو يشد على الجدار ويفرك انفه في الهواء اين انت يا وهج؟، آه يا رائحة الخبز والمطر، ذلك الخبز الذي اقسمت ألا اكله بعدك يا وهج. كعادته كان يهب الجدار قليلا من الدفء ويرحل، لم يعد باب البيت قابلا للطرق، كان يدخله حتى في اشد الايام ظلمة حتى ظن اهل القرية انه تعلم السحر او ان جنيا تلبسه، لكن وجه وهج كان يجوب الغرفة بكل طفولة ليضئ له وحدته، ثم ينفجر بكاء حين يتذكر كيف كان الماء يداعب خصلاتها بكل نعومة وهي نائمة تفرد جناحها لتحلق بعيدا حيث لا يعلمون. يجلس بالقرب من زاوية الغرفة، لان تلك الزاوية هي المكان الذي يضم بكاء وغضب وهج. اين وجهك يا وهج لاطفئ دمعه، هل كان وجه الماء اشد لطفا عليه مني يا جنية البيت، هل كان؟؟! كان كل اهل القرية يسمعون نواحه وصراخه على فترات متقطعة حتى تعود الا يقترب من حزنه احد. الريح وحدها من كان يصفر معه. ووحدها من كان يعبث بارجوحة وهج. آه يا وهج، انت كالريح، كلما عبرتني تلدين شيئا في داخلي، الموت وحده ليس كافيا ليغلي كل شئ. يخرج من عزلة تلك الزاوية لينتقل الى غرفة تحمل الكثير من ضجيج تلك الارواح المتباكية والضاحكة حول صحن صغير يتقاسمه الجميع وهو يدور بكل ارتباك وقتال بين ايديهم، يجلس هناك وكأنه يستعد لعشاء اخير آه يا وهج لو تعلمين كيف كان الصحن باردا تلك الليلة، وكأن روحا اقتلعت من تلك الغرفة الضيقة، لاول مرة يركل الجميع صحنهم المقدس، والذي أبى أن يدور وانت تختفين يا وهج حيث لا نعلم، الخبز وحده لن يكفي ثمنا لحزنك حتى آخر الليل. كان آخر ما بقي من وهج في ذلك البيت القديم دمية كانت قد حاكتها لها جدتها من بقايا قماش، كان الغبار يملأ تلك الدمية التي تناثرت اجزاؤها بشكل غير منظم، اقترب من الدمية ولم يشأ ان يغير من هيئتها. وهج اتتذكرين بكاءك وانا امزق كل دمية صنعتها الجدة، فاين كانت مني هذه، اين انت لتركليني وتصرخين؟! ام ان جنيا دسها كما دسك الماء بين اضلاعه!. كان اهل القرية قد عزموا على مواجهة الساحر هذه المرة لانهم متأكدون انه السبب فيما اصاب الفلج من جفاف، فهو يحمل لعنته على الماء اينما ذهب، تجمهروا حول البيت وتصارخوا هي انت ايها الساحر او العفريت اخرج واجهنا، نحن لا نخافك فكله موت، نحن نموت عطشا، توقف عن صب لعناتك على الماء والااحرقناك لتعرف طعمه. افاق من ذاكرته وهرول للخارج، الكل هناك الصغار قبل الكبار يزاحمون ليجدوا ممرا بين اجساد ابائهم كي لا يفوتهم منظر الساحر، هل اصبحت وهج من السحر، الا تبكون كلكم وهج، الم يخنقها ماؤكم الذي تشربون، يا لبؤسكم. انتم لا تشعرون بل لا تعلمون، ماؤكم هذا اطفأ وهج واطفأ البيت الذي كان يؤرقه ضجيجها، حملها حيث لا نعلم، وجهها الصاخب كان يعكس كل الحزن وهو ينفسخ من الماء لينتقل الى حيث يسافر النور الى كل ذي ظلمة وانتم انفسكم تشهدون بدأت الحوارات تتكاثر وتدوي في المكان ليصرخ احدهم انه الساحر وربما القاتل ايضا، انه يلقي بطلاسمه علينا ويلعن ماءنا لنرحل جميعا كما حدث لوهج، اقتلوا الجاني بل احرقوه. ينظر للسماء احرقوني فلا نار اشد من رحيلك يا وهج، ولتصبوا علي لعنات مائكم الذي تنفسته وهج. كان مازال ينظر للسماء وهو يقول وهج الموت وحده لا يكفي ليلغي كل شيء، الآن سأعرف اين ترحلين حيث لا يعلمون يا جنية البيت ووهجه؟. باسمة الشبيبي