بيت أشبه بقصر مستقل في قرية صغيرة في أسفل الوادي يدور من حوله سور له ثمانية زوايا وثلاثة مداخل شبه مغلقة تقريباً، لا أعتقد أن أحداً يستخدمها وباب كبير أسود اللون أعتقد أنه ضرب وجه واحد فقط مفتوح على مصراعيه لم يقفل ذاك الباب منذ فترة طويلة ومع غرابة هذا البيت فإنه يوجد في إحدى زواياه غرفة صغيرة وبداخلها سرير ودولاب كبير وتسريحة (كومدينة) وصور معلقة على حيطانها لأبناء أم لثلاثة رحلوا عن هذه القرية لظروف أعمالهم أو لأسباب أخرى ولا يستطيعون التواصل معها ومع ابنتيها الأولى معلمة للمرحلة الابتدائية والثانية طالبة جامعية، تنظر الأم إلى أركان غرفتها وكأنها لأول مرة تراها، تنظر لصور أبنائها متأملة قائلة: يا بناتي أمنية عيني أشوف ورعاني قبل ما أموت. تقترب المعلمة من أمها ثم تضع قبلة على رأسها قائلة: الله يطول بعمرك يا يمه ويخليك لنا بتشوفينهم إن شاء الله كل شيء يهون لا تشغلين بالك. تتحرك طالبة الجامعة لكي تخرج أمها وأختها من الجو الذي هما فيه ثم تقول: وش رأيكم بالعشا اليوم ملوخية.. هاه وش رأيك يمه؟ تقول الأم حائرة من دون نفس والحزن يملأ وجهها الذي هو أشبه بقلعة قديمة قد أفقدها الزمان قوتها وصبرها: بكيفكم اللي تسوونه باكل منه. تخرج طالبة الجامعة كي تتطقص الجو خارج الغرفة ثم تعود بعد دقيقتين إلى الغرفة اليتيمة وهي مسرعة مما أخاف أمها وأختها قائلة: عمتي في المطبخ وحدة منكم تروح أنا والله ما أخرج مرة ثانية. الأم: أنا رايحة. المعلمة تفز من مكانها: لا يمه والله ما تقومين أنا باروح. تنطلق المعلمة من الغرفة إلى أن وصلت إلى زاوية باب المطبخ ثم تدخل بهدوء مدققة ببصرها حيث أنه لا يوجد في المطبخ إلا الشغالة تنقل الصحون من غرفة عمتها ثم قامت باحثة عن الملوخية ولم تجدها فقامت بالبحث عن شيء آخر مناسب لرد جوع بطونهن ولم تجد أي شيء فيه، عادت إلى الغرفة بينما أمها كانت قلقة عليها جداً منتظرة محدقة في يد الباب حيث إن أختها اضطجعت على السرير متأهبة إلى النوم قائلة لها أمها: ياه يا بنتي وين العشاء؟ ردت عليها المعلمة وهي حائرة: والله ما بقي شيء خلص. الأم وهي مستغربة: كيف خلص وأنا اليوم شفت أبوك جاب ملوخية وعيش وجبنه وين راحت... والله إني دريت أن الخسيسة دستها علينا لكن حسبها الله حسبها الله ونعم الوكيل. وفي نقاش مستمر إذا بالطالبة تجد أن النوم أريح لها من (مفطح بالكامل) بعد عناء المذاكرة وهمومها العليلة. فلما رأت الأم ابنتها الصغيرة قد نامت قالت للمعلمة: روحي يا بنتي دوري لك لقمة قبل ما ترقدين، أما أنا والله مشتيه (ما أبغاه). المعلمة بكل حزن وأسى: لا يمه لا ترقدين لين تأكلين علشان تأخذين علاجك. الأم: والله ما لي نفس يا بنتي لكن عطيني كاسة لبن من الدولاب بشربها وآخذ علاجي وأحط رأسي. المعلمة وهي تأتي باللبن والدواء من الدولاب: آه يا يمه أحس أني مكتومة ومخنوقة أحس أنه بيصير شيء مدري ليش. الأم: تعوذي من الشيطان يا بنتي وسمي بالرحمن. تعطي أمها كأس اللبن والدواء ثم تخرج من الغرفة حتى تتوضأ بعدها عادت إلى الغرفة بينما أمها تتحسس لها لكي تطمئن على ابنتها قبل أن تنام ثم قامت المعلمة وصلت ركعتين داعية الله في سرها أن يحفظ لها أمها وأختها من كل سوء وأن يرد الغائبين ويصلح الشأن، بعدها خرجت كي ترضي أمها قبل أن تنام لتأكل لها شيئاً متجهة إلى المطبخ باحثة عن شيء يؤكل قائلة للشغالة بكل تودد التي كانت تنظف المطبخ آخر الليل كعادتها: (أمينة) مافي عيش؟ ترد الشغالة وهي خائفة وبسرعة: (فيه فوق دولاب بس مافي قولي أنا قلك). أخذت المعلمة شيئاً لتصعد عليه كي تتوصل به إلى العيش المخبأ فوق الدولاب حيث تأخذ منه وصلة صغيرة وتعيده في مكانه على نفس الوزنية بكل دقة ثم فتحت الثلاجة باحثة عن شيء آخر بجانب العيش فلم تجد سوى وصلات من جرجير فغسلتها ووضعتها في داخل العيش اتجهت إلى الغرف بسرعة حتى لا تفقد وليمتها والمسافة بين المطبخ والغرفة صالة صغيرة إذا بعمتها تنقض عليها قائلة بوحشية: من وين خذتي العيش؟ المعلمة ترد عليها بخوف أن تفقد وليمتها: من المطبخ؟ تمسك العمة بشعرها غاضبة: دريت أنه من المطبخ بس وين بالضبط. والمعلمة وهي تتألم بصمت: من فوق الدولاب. العمة تشد شعرها بقوة: ومن قالك أن العيش فوق الدولاب؟ المعلمة وهي تتذكر كلام الشغالة: ما حد أنا طالعت وشفت الكيس فوق الدولاب؟ العمة بكل قوتها وخساستها ووقاحتها: هات العيش وانقلعي الله يعلنك ويلعن أمك. تذهب المعلمة متجهة إلى غرفة أمها الآمنة حيث ألم بها الألم من كل صوب وهي تنظر إلى الساعة بعد منتصف الليل حان وقت النوم تتأكد من توقيت المنبه ترفع لحافها لتريح رأسها. تتحرك أمها قائلة لها: هاه بنتي تعشيتي؟ فردت المعلمة وهي بداخلها صرخات وبكاء يكاد أن يتفجر: الحمد لله يا يمه تعشيت.. تصبحين على خير. الأم: وانت من أهله.