من أراد أن يتعرف على المعنى الحقيقي للعلمانية الغبية فليذهب إلى تركيا، حيث يفاجأ بأن الدولة كلها بساستها ومؤسساتها وقوانينها وجيشها لا هَّم لها إلا شيء واحد هو: يكون الحجاب أو لا يكون. فإذا لم يكن فالعلمانية بخير، وكذلك الديمقراطية والجمهورية. أما اذا كان، فتلك نهاية التاريخ، وعلى الأمة السلام! (1) لا يكاد المرء يصدق عينيه وأذنيه وهو يتابع اللوثة التي أصابت النخبة التركية حين نشرت الصحف صورة رئيس البرلمان بولند ارينج والى جواره زوجته المحجبة، وهما يتقدمان مودعي رئيس الجمهورية في سفرته إلى براج لحضور قمة حلف الأطلسي. مصطحباً زوجته. إذ ظهرت عناوين صحف اليوم التالي صائحة مولولة، وناعية إلى الناس نبأ الكارثة التي حلت بالعلمانية حين أطلت تلك المحجبة في الوداع الرسمي لرئيس الجمهورية. كان للخبر وقع الصاعقة، حيث ما خطر ببال النخبة المهيمنة أن يأتي زمان على الجمهورية التركية يظهر فيه الحجاب في مناسبة رسمية وفي حضور رئيس الجمهورية. كان عنوان صحيفة "حريت" "الحجاب يغطي رأس الدولة التركية"، باعتبار أن رئيس البرلمان هو الذي يتولى مهام رئاسة الدولة بالوكالة، في غياب الرئيس. أما صحيفة "ملليت" فكان عنوانها: الحجاب في بروتوكول الدولة، أما التعليقات على الحدث الجلل فقد ركزت على أن هذه هي المرة الأولى في تاريخ الجمهورية الكمالية( التي تأسست في عام 1923) التي يظهر فيها الحجاب على رأس امرأة في مناسبة رسمية، واعتبرته خطراً على العلمانية، ومقدمة للانقلاب على الجمهورية بأسرها. منذ وقعت الواقعة يوم 20/11 وحتى الآن، أي طيلة شهر تقريباً، واللوثة مستمرة، متجلية في تعليقات يومية حول موضوع الحجاب على صفحات الصحف، وحوارات لا نهاية لها على شاشات التليفزيون بمحطاته وقنواته المختلفة (عددها 15 محطة) - ورغم أن استطلاعات الرأي التي أجريت حول الموضوع أسفرت عن أن 70% من أفراد الشعب يؤيدون رفع القيود المفروضة من قبل السلطة على الحجاب، إلا أن النخبة المهيمنة التي احتكرت صدارة المجتمع تجاهلت تلك الحقيقة ومضت تتجادل حول الخطر الذي يمثله الحجاب، وحول مشروعية حظره، وهل الحظر يستند إلى الدستور وإلى تعاليم مؤسس الجمهورية كمال اتاتورك، أم إلى نص القانون او روحه. كان هناك مؤيدون لرفع الحظر، استناداً إلى النص على حرية الاعتقاد في الدستور، والى مبادئ ميثاق حقوق الإنسان. في الوقت ذاته فان صحف الاتجاه الإسلامي أضافت أن اتاتورك لم يمنع الحجاب رغم انه منع ارتداء العمائم إلا في أماكن العبادة فقط. ونشرت بعض تلك الصحف صوراً لاتاتورك مع زوجته لطيفة هانم وقد ارتدت حجاباً كاملاً، مشيرة إلى أن أمه زبيدة هانم كانت محجبة أيضاً. أما مؤيدو حظر الحجاب فقد استندوا إلى أحكام القضاء وتعميمات مؤسسات الدولة وما أطلقوا عليه "تقاليد الجمهورية". رئيس الجمهورية احمد نجدت سيزر لم يصطحب زوجته في سفرة لاحقة إلى ألمانيا، حتى لا يأتي رئيس البرلمان بزوجته المحجبة في وداعه، كما تقضي قواعد البروتوكول، ومن ثم تتكرر الأزمة ويتضاعف الهياج السياسي والإعلامي في البلد. وفي أول فرصة - حين زاره وفد من المعلمين - أعلن الرئيس سيزر أن إلغاء الحظر على الحجاب في الأماكن الرسمية والجامعات يعني التنازل عن المبادئ العلمانية الأساسية للجمهورية، ويتعارض مع أحكام المحكمة الدستورية العليا، التي كان يرأسها يوماً ما. وهو ذات الموقف الذي عبر عنه القادة العسكريون في أول اجتماع لمجلس الامن القومي بعد تشكيل الوزارة الجديدة. (2) بعد فوز حزب العدالة والتنمية بالأغلبية في الانتخابات، فان الجدل في الأوساط السياسية والإعلامية تجاهل القضايا الحياتية الملحة في البلاد، وفي مقدمتها الأزمة الاقتصادية، وشيوع الفساد ومسائل الحريات العامة، وفتح ملف الحجاب وموقف الحكومة الجديدة منه. ولان زعماء الحزب واكثر أعضاء الحكومة لهم خلفيات إسلامية لا تكاد تتجاوز حدود التدين العادي ، فان أركان المؤسسة العلمانية اعتبروا موضوع الحجاب حداً فاصلاً بين الولاء للجمهورية والانقلاب عليها، وذهبوا إلى أن استمرار الحظر عليه هو المعيار الأول للثقة في الحكومة وفي جدارتها بالاستمرار. الذي آثار التساؤل بعد فوز الحزب أن رئيسه الطيب اردوغان زوجته ترتدي الحجاب، وكذلك ابنتاه اللتان لم تستطيعا الالتحاق بالجامعات التركية بسبب حظرها للحجاب، ومن ثم اضطرتا إلى مواصلة تعليمهن في الولاياتالمتحدة، وهو ما تفعله كثيرات من بنات الأسر التركية. كذلك الحال بالنسبة لنائبه عبد الله جول، واغلب قيادات الحزب. لذلك فانه منذ اليوم الأول لإعلان فوز حزب العدالة بالأغلبية كتبت صحيفة "صباح" متسائلة: هل ستكون زوجة رئيس الوزراء محجبة؟ وكان السؤال استنكارياً، لأنها أردفت تقول: لم يحدث سوى مرة واحدة في تركيا الحديثة أن تجرأت زوجة مسئول كبير على الظهور بالحجاب، الذي تعتبره النخبة التركية المقربة من الغرب بمثابة نيل من القيم الحديثة العلمانية. وهو ما لم يلق استحساناً، لان الجيش قام في نهاية المطاف بطرد زوجها، رئيس الوزراء السابق نجم الدين اربكان. في أول مؤتمر صحفي عقد بمقر رئاسة الجمهورية عقب إعلان نتائج الانتخابات، طرح السؤال على الناطق باسم الرئيس سيزر. ولكنه رفض أن يوضح ما اذا كانت مسألة الحجاب ستكون من العناصر الحاسمة في اختيار رئيس الوزراء الجديد - غير أن الصحف لم تتوقف عن تقليب الموضوع ومناقشته، عبر نشر صور المرشحين وزوجاتهم - واحتدمت تلك المناقشة حين عين عبد الله جول رئيساً للوزراء رغم أن زوجته ترتدي الحجاب. وحين تبين أن زوجات 16 من 24 وزيراً في الحكومة الجديدة محجبات أيضاً. الأمر الذي آثار موجة من التعليقات، لا على كفاءة الوزراء وأفكارهم ومسئولياتهم، ولكن على أردية زوجاتهم وحجابهن، والمشكلات البروتوكولية التي يمكن أن تترتب على ذلك الوضع غير المسبوق في تاريخ الجمهورية. (3) منذ الثمانينات والجدل مستمر حول موضوع الحجاب في الدوائر السياسية والإعلامية. فقد صدر قانون بعد انقلاب العسكر عام 81 منع الطالبات المحجبات من دخول الجامعات، لكن بعدما تولى توركوت اوزال رئاسة الحكومة في عام 83 نجح نواب حزبه (الوطن الأم) في استصدار قانون يحمي حرية دخول الجامعات. ولكن طعن في القانون الجديد امام المحكمة الدستورية العليا التي أبطلته وعادت المشكلة إلى نقطة الصفر مرة أخرى. وظلت موضع شد وجذب إلى أن قام العسكر بانقلابهم الأبيض الشهير في فبراير 1997، مما أدى إلى استقالة حكومة نجم الدين اربكان. ونصت قرارات مجلس الامن القومي التي أحدثت ذلك الانقلاب على ضرورة تطبيق "قوانين الثورة" فيما يتعلق بالزي الواجب ارتداؤه. والمقصود هو قانون الزي (يسمونه قانون القيافة) الصادر في عام 1934، الذي يتطرق إلى زي الرجل وليس المرأة. حيث يفرض ارتداء القبعة بدلاً من الطربوش والبنطلون بدلاً من الجبة (في الدستور الحالي نص بهذا المعنى). وبعد إعلان قرارات المجلس الذي يتحكم فيه رئيس الأركان وقادة أسلحة الجيش، صدر تعميم في مجلس التعليم العالي بمنع المحجبات من دخول الجامعات. وهو المنع الذي لا يزال مستمراً إلى الآن. أشرت تواً إلى انه بسبب ذلك الحظر اضطر عدد غير قليل من الفتيات إلى الالتحاق بجامعات أخرى خارج تركيا، بعضهن ذهبن إلى بلد مسلم مثل أذربيجان والأخريات توزعن على الدول القريبة نسبياً مثل المجر (الأقل تكلفة) والنمسا وألمانيا وهولندا. ولكن العلمانية الكمالية أبت إلا أن تطارد المحجبات حتى اذا درسن في الخارج. فقد قرر المجلس الأعلى للتعليم ألا يعتمد الشهادات الممنوحة في الخارج إلا اذا أجرى الطالب او الطالبة اختبار قبول بعد عودته إلى بلده. وهو ما وضع امام الطالبات المحجبات عقبة لم تكن في الحسبان، لان ذلك الاختبار محظور عليهن إلا اذا خلعن الحجاب! نفس المشكلة حدثت في البرلمان التركي، حين نجحت في الانتخابات التي جرت في سنة 1999 نائبتان محجبتان، إحداهما عن حزب الحركة القومية، اسمها نسرين اونال، والثانية عن حزب الفضيلة واسمها مروى قاواقجي. الاثنتان كانتا تعرفان أن النظام الداخلي للمجلس يقضي بان ترتدي النائبة "تايور"، وليس فيه شيء يتعلق بغطاء الرأس. لكنهما كانتا تعرفان أيضاً أن هناك من يتربص بهما،. نسرين تجنبت المواجهة، وحلت الأشكال حين خلعت حجابها قبل أن تدلف إلى القاعة. أما مروى قاواقجي فأصرت على الدخول بحجابها، وسط تصفيق نواب حزبها (الفضيلة) وصيحات نائبات ونواب الحزب الحاكم (اليسار الديمقراطي) الغاضبة، التي ظلت تهتف بصوت هيستيري عال: ديشاريا - ديشاريا، أي إلى الخارج إلى الخارج. وراء الكواليس كانت هناك ترتيبات أخرى. كان العسكر قد ابلغوا الحزب الحاكم بأن مروى قاواقجي يجب ألا تحلف اليمين، حيث لا مكان في البرلمان الذي أسسه اتاتورك لامرأة ترتدي الحجاب. وتسربت أنباء عن أن الرسالة نقلها رئيس أركان الجيش إلى رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، الأمر الذي بدا وكأنه تهديد من الجيش بالتدخل. كما سرت إشاعة عن انه اذا ذهبت السيدة مروى وأدت اليمين الدستورية، فان طلاب المدرسة الحربية سيخرجون في مسيرة احتجاج إلى شوارع أنقرة. وسط الغضب والضجيج وقف بولند أجاويد رئيس الوزراء، واخرج من جيبه نصاً مكتوباً اعد سلفاً لمواجهة هذه اللحظة. ومن النص قرأ: هنا ليس مكاناً لتحدي الجمهورية! - وتتابعت بعد ذلك فصول القصة التي انتهت بإسقاط عضوية مروى، بل وإسقاط الجنسية التركية عنها، بحجة أنها حصلت على الجنسية الأمريكية دون إذن او أخطار! (4) اللوثة ما زالت مستمرة. فحين ذهب بعض الوزراء إلى حفل إفطار أثناء رمضان في فندق هيلتون، ثم انتحوا جانباً في أحد ممرات الفندق أدوا فيه صلاة المغرب، قامت الدنيا ولم تقعد، وتصاعدت الأصوات الغاضبة في وسائل الإعلام محذرة من الخطر الداهم الذي يهدد العلمانية، من جراء قيام بعض الوزراء بالصلاة في مكان عام - وأين؟ - في فندق هيلتون، ذي الخمس نجوم، الذي يؤمه وجهاء البلد! قامت القيامة أيضاً حين أذيع خبر إذاعة صلاة الجمعة عبر مكبر للصوت، للمرة الأولى، من مسجد ملحق بمقر رئاسة الحكومة، وهو ما سارع عبد الله جول إلى نفيه قائلاً انه لا يعرف أن هناك أصلاً مسجداً ملحقاً بمكتبه! هذه الأحداث التي هي عندنا أخبار عادية وممارسات يقدم عليها أي مسلم بسيط في أي مكان بالدنيا، تحولت في تركيا إلى مخاطر تهدد العلمانية، الأمر الذي حولها إلى حملة مضادة لأبسط مظاهر وشعائر التدين. ولو أن هذا السلوك عبر عنه آحاد الناس او بعض الفئات المحدودة لهان، ولكن المشكلة انه مسلك تتبناه النخبة المهيمنة في السلطة والأحزاب والجيش والعديد من المؤسسات المدنية، الأمر الذي يقدم لنا نموذجاً للعلمانية يختلف كثيراً عما نعرفه. وهو نموذج يرفع الالتباس عن العلاقة بين العلمانية والليبرالية، ويقطع بأنه لا تلازم ضروري بين الاثنين كما يدعي البعض. وهو أوضح ما يكون في نموذج العلمانية التركية. حتى أن البرنامج الإصلاحي لحكومة حزب العدالة ذي الخلفية الإسلامية يبدو اكثر ليبرالية من موقف النخبة التقليدية الحاكمة. أن بعض الباحثين المحترمين -الدكتور عبد الوهاب المسيري تحديداً - ما برحوا يحدثوننا عن "العلمانية الشاملة"، التي هي بمثابة منهج ورؤية متكاملة للكون والإله والحياة، وأخرى "جزئية" تدعو إلى فصل الدين عن الدولة (له كتاب من جزأين صدر أخيراً في الموضوع) - لكن ما رأيته في تركيا يقدم شيئاً ثالثاً، فهو ليس رؤية شاملة، ولا هو جزئية، ولكنه خليط من حبس الدين في الدولة ( في داخل البيوت بالكاد) او طرد له من الدولة، بمعنى نفيه تماماً من مؤسساتها ومن الحياة العامة، وفي كل أحوالها فهي علمانية لا تعمد إلى تهميش الدين ولكنها تخاصمه وتطارد مظانه ومظاهره! وإذ يحدث ذلك في بلد 98% من سكانه مسلمون، ويقترن بخلل هائل في أولويات ومعايير العمل الوطني، فأنها تغدو علمانية غبية بامتياز، تصادر إمكانية التوصل إلى صيغة مشتركة لمشروع الأمة او حتى حلمها، ولا تسأل عن البؤس الذي يطول هويتها وحقيقة انتمائها! - الأمر الذي يصيبنا بالدهشة والارتباك - بالغثيان أن شئت الدقة - إزاء الدعوة التي يرددها بعض المتعالمين في العالم العربي، مشيدين فيها بما أسموه "الإسلام التركي"، ومشجعين الآخرين على احتذاء نموذجه. (5) في كتابات سابقة دعوت إلى التفرقة في التعامل مع العلمانيين بين المتطرفين منهم والمعتدلين. وقلت انه من المتعذر العثور على أرضية حوار مشترك مع الأولين الذي يخاصمون الدين ويجعلون من نفيه واقتلاعه هدفاً لهم، مبطناً وليس معلناً بطبيعة الحال لان منهم من يتستر وراء الدعوة - مثلاً - إلى ما يسمى "صحيح الدين" لكي يهدم كل الموجود. أما العلمانيون المعتدلون المتصالحون مع الدين والداعون إلى مجرد الفصل بين الدين والدولة، فالمشترك معهم قائم ليس فقط في قاعدة الإيمان، ولكن أيضاً في كل قضايا العمل الوطني الراهنة، وهي جسيمة وملحة، رغم وجود الاختلاف حول المقاصد النهائية، التي آجالها في علم الغيب. ومن العبث ومضيعة الوقت أن تستدعي لكي تحسم في الوقت الراهن. النموذج الذي قدمه حزب العدالة والتنمية في تركيا يجسد تلك المصالحة المنشودة. تماماً كما أن الحوار القومي الإسلامي الذي تبناه مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت بمثابة تجسيد اخر يحاول بلورة الفكرة وإخراجها إلى حيز الواقع. وهي ذات الفكرة التي تحدث عنها قبل أيام الدكتور هشام شرابي أستاذ التاريخ في جامعة جورج تاون الأمريكية، في مقال دعا فيه إلى تجاوز الفصام العلماني والإسلامي، وارجع تشرذم الشارع العربي إلى ذلك الفصام النكد - كان عنوان المقال: لهذه الأسباب لم يتحرك الشارع العربي (القدس اللندنية - 12/12) - وهو هاجس عبر عنه آخرون، ومنهم الكاتب التونسي البارز صلاح الدين الجورشي الذي نشرت له صحيفة "الحياة" في 5/12 مقالاً تحت عنوان: الرسالة التركية: العلمانية المؤمنة مقابل الدولة الإسلامية. أن الفكرة جديرة بان تحتل مساحة أوسع من النقاش، الذي اذا تكلل بالنجاح، فانه قد يساعد المخلصين من أبناء هذه الأمة على تجاوز أحد مآزق واختناقات العمل الوطني - وهي المآزق التي يحرص آخرون على استمرارها وتفجير عناوينها بين الحين والآخر، لأنهم يكتسبون شرعيتهم ويمارسون أدوارهم من وجودها وانشغال الرأي العام بتداعياتها.