لا أدري إلى أي مدى تصلح تجاربنا الذاتية أن تنشر كمقال في صحيفة، إلى أي مدى تفيدنا الكتابة عنها، وإلى أي مدى هي مفيدة لغيرنا، لكن قناعتي أن أفكارنا هي جزء من تجربتنا، وحين يتحدث الكاتب عن نفسه هو يكشف تحيزاته بدلا من أن يعطي أفكاره صيغة وثوقية وكأنه يتحدث عن تجارب البشرية كلها. قمت بهذه التجربة بشكل عفوي وغير مرتب له، كنت أقود سيارتي وحدي، تأتيني أحيانا أفكار غريبة فأسترسل معها وأنفصل عن ما حولي، راودتني في ذلك اليوم فكرة غريبة، ماذا لو أن حادثا جرى لي، ثم قمت ولم يصبني أذى، لكني ذهبت إلى المستشفى احتياطا، وربما ذهبت تحت إلحاح من حولي، وهذا ما سيحدث غالبا لأني لا أذهب إلى الطبيب إلا مضطرا. في تلك الساعات الأربع الأخيرة، والتي تصبح في تجربتي مجرد عشر دقائق، لأن الخيال أسرع من الحقيقة، كل شيء يمر بسرعة لكنك تشعر بضغط الساعات عليك، هنا لا يبدو شيء يستحق الحياة سوى هذه العائلة الصغيرة، سوى هؤلاء الأفراد الذين يعدون على أصابع اليد، إنهم الشيء الحقيقي في حياتنا، إنهم الذين يحبوننا ونحبهم دون شروط. بعد الفحوصات قال الأطباء إنك تعاني من نزيف داخلي حاد، ستبقى هكذا لأربع ساعات، ستكون معنا تبتسم وتتحدث، وستخبر من تريد بما تريد، ستكون في كامل وعيك، لكنك بعد أربع ساعات ستغادر هذه الحياة، وستبقى هنا تحت الملاحظة حتى ذلك الوقت، وسنقدم لك كل ما نستطيع. دخلت في هذه الفقاعة تماما، وعشت هذه الحالة وتعاطفت معها، واسترسلت في الأفكار، كانت كل التفاصيل تتلاشى أمام عيني، كل شيء يغيب، كل ما كان عظيما يتصاغر حتى يصبح لا شيء، تماما كما يحدث حين تركب الطائرة، في إقلاعها ترى الأشياء يتغير حجمها وتصغر، حتى تصبح الأحياء والمدينة بكاملها ببيوتها وشوارعها كلعب الأطفال، وترى الناس في الشوارع بسياراتهم، يسرعون لإنجاز ما يجب إنجازه في هذا اليوم، وأنت الآن أصبحت لا يعنيك كل هذا. ما الشيء الذي يبقى في ذهنك الآن، ما هو المعنى الذي تعتقد الآن أنه استحق الحياة من أجله، على مستوى الحب، كل تلك التفاصيل تلاشت، كل تلك الغراميات والعواطف اللحظية، التي شغلت حيزا من عقولنا وورطتنا في قلق مستمر، وأفقدتنا علاقات أخرى، تظهر الآن كتصرفات طفل كان مزعجا في البيت لأنه يريد الذهاب إلى السوبرماركت لشراء الحلويات. لا تخطر في بالك إلا العلاقات الحقيقية، إلا الحب المستمر، انهما والداك، أول ما يخطر في بالك، أن تراهما، وأن تغادر وقد اطمأنت نفسك إلى رضاهما، مهما انشغلنا في حياتنا ومهما أظهرنا أن حياتنا بدت أهم من تلك الزيارات والاتصالات التي نبخل بها في كثير من الأحيان، يبقى الوالدان هما أكبر معنى نعيش لأجله. في كثير من الأحيان، وبالذات حين ندخل في أزمة منتصف العمر، تبدو عائلاتنا ثقلا يسحبنا إلى الأرض، ويقلل من طموحاتنا، الزوج والزوجة والأولاد، وكل الدورة المالية التي ندخل فيها، والالتزامات العائلية والارتباكات الاجتماعية، تصبح أحلامنا الشخصية كلها مؤجلة، نود في كثير من الأحيان لو نعود لنقطة الصفر، حتى نقرر من جديد هل نحن جادون في الالتزام بهذا الثقل في الحياة، أم أن الحياة دون مسؤولية والتخفف من كل شيء أفضل لنا ولطموحاتنا. في تلك الساعات الأربع الأخيرة، والتي تصبح في تجربتي مجرد عشر دقائق، لأن الخيال أسرع من الحقيقة، كل شيء يمر بسرعة لكنك تشعر بضغط الساعات عليك، هنا لا يبدو شيء يستحق الحياة سوى هذه العائلة الصغيرة، سوى هؤلاء الأفراد الذين يعدون على أصابع اليد، إنهم الشيء الحقيقي في حياتنا، إنهم الذين يحبوننا ونحبهم دون شروط، حبا في كل الحالات وكل الأوقات، إنهم الثقل في حياتنا.. هذا صحيح، لكنه الثقل الذي يعصمنا من الانهيار في أشد الضغوطات، نحن نتخذ القرارات لأجلهم دائما، لكننا حين ننظر إلى ما حدث بعد سنين نجد أن تلك القرارات التي كانت لأجلهم هي في الواقع لأجلنا ولمصلحتنا. على المستوى الديني كل التفاصيل تتلاشى، ولا تبقى سوى الحقيقة الكبرى، سوى الله، كل تلك النقاشات والصراعات وكل تلك الخلافات الفقهية لا تظهر لك أبدا، هنا تظهر العلاقة، تبرز تلك الحوارات والمناجاة والحديث المباشر الذي توجهت به إليه وتعرفت عليه في لحظات قليلة، كنت فيها وحدك، فقدت الاحساس بمن حولك وسألت.. سؤال من لا يخشى الجفاء ولا يظن إلا الرحمة.. تلك هي العلاقة الحقيقية التي توجهت فيها منفردا إلى الله.. أما كل تلك الأفعال الجماعية التي خطوت بها مع مجتمعك فلا تظهر لك، ما فاجأني أن ما يستحق الحياة كان واضحا، ولم يكن هو ما يستنزف أكثر جهودنا. تويتر @alhasanmm