ترددت كثيرا قبل ان ألم شتات هذه التداعيات لأضم صوتي الى اصوات كتاب سبقوني في الدفاع عن (أبي الصلاصل). وهي كنية اشتققتها من صوته. يقال حمار صلاصل (بضم الصاد الأولى) أي شديد النهيق. وأبو الصلاصل حيوان مستضعف لم ينصفه التاريخ، فقد كتب تاريخه بمداد من التحيز على ورق من التجني. قد يقول قائل: الا توجد قضايا اخرى اكثر اهمية من هذا الموضوع؟ وهل هذا وقت مناسب للمرافعة عن الحمير؟ ولو استمع معشر الكتاب الى مثل هذه الاعتراضات لما انتجوا شيئا غير الخطب الرنانة، والبيانات الطنانة التي يتوهم اصحابها انهم يعالجون بها قضايا الساعة، ويحلون طلاسمها، ويفكون اختناقاتها. ما علينا!! فقد كان الحمار مستضعفا مضطهدا، ألفت عنه حكايات تطعن في ذكائه، وشبه به بعض البشر على سبيل المجاز، ولو يستطيع النطق لدافع عن نفسه نافيا وجه الشبه. قالوا انه رأى الحصان مرة يقطع الترعة محملا بالملح فكان الحصان يغطس في الماء ليذيب الملح ويخف حمله، وراقت له تلك الفكرة، فأراد ان يقلد الحصان فغطس في ماء الترعة يوما وهو محمل بالقطن، فزاد القطن بلة! وقيل عنه انه يضحك آخر الليل بعد ان تخلد جميع الحيوانات للنوم على النكات التي سمعها في الصباح، حتى جورج ارويل مؤلف (مزرعة الحيوان) انضم الى جوقة الهجائين عندما نفى عن الحمار الرغبة في الضحك تماما فقال: وهو الوحيد بين حيوانات المزرعة الذي لم يضحك ابدا، واذا سئل لماذا؟ يجيب: انه لا يجد ما يضحك. وهذه الملاحظة تعني من بين ما تعنيه الغفلة.. ذلك ان العالم زاخر بالمضحكات (ولكنه ضحك كالبكاء). ولا نريد هنا ان نزور الحقائق فندافع عن ذكاء ابي الصلاصل كما فعل احد الشعراء، او ندعي ان له صوتا رخيما وحنجرة ذهبية ينافس بها نجوم الغناء العربي. لكننا ضد ذلك التحيز والتمييز الذي يطال ذلك الحيوان النافع المسالم الصبور الصموت. لقد أبلى صديقنا القاص عبدالله محمد حسين (عبدالله السالومي - سابقا) بلاء حسنا في بداية الثمانينات دفاعا عن ابي الصلاصل، وانتصارا له ضد وسائل النقل الحديثة التي سحبت البساط من تحت حوافره. ليس هذا وحسب، ولكن الحمار قد تسلل بخفة الى مجموعاته القصصية، ففي مجموعته (شروخ في وجه الاسفلت) قصة يعالج فيها حالة غرام وقع فيها حمار أبي صالح مع اتان غاية في الجمال.. (خدان اسيلان، وعينان مثل عيون المها، وشعر حريري كثيف يتدلى على عنقها الطويل، رشاقة وهيافة اشعلت نار الوجد في قلب الحمار من اول نظرة. لذلك تهلل وجه (صريع الأتن) عندما رآها وشط خياله.. ستقاسمه الوحشة في نهاية العمر).. لكن يبدو ان ابا صالح لا يؤمن بأية علاقة غرامية حتى بين البشر، فكيف يسمح بها في دنيا الحمير؟ خصوصا ان علاقة كتلك قد تعطل قدرات حماره، وتشل طاقاته، وتشغله عن واجباته اليومية، فهو وسيلة مواصلاته الوحيدة، ولذلك لم يسمح لتلك العلاقة بان تتطور او تنتهي بالوصال. وهكذا باع الحمارة، ولسان حاله يقول: الباب اللي تجي منه الريح سده واستريح. وفي حمى ذلك الحب ساءت حالة الحمار فكف عن تناول علفه، وصار يهرس البرسيم بحوافره وكاد يلاقي حتفه. كما حدث لمجنون ليلى من قبل. وقد سبق ابو الفرج الببغاء صديقنا عبدالله في وصف أتان حسناء صبوحة الوجه بقوله: كأنما وسمها الكمال بنهايته، أو لحظها الفلك بعنايته، فصاغها من ليله ونهاره، وحلاها بنجومه واقماره، ونقشها ببدائع آثاره.. ذات اهاب مسير، وذنب مشجر.. فهي قيد الابصار، وامد الافكار، ونهاية الاعتبار. ان اتانا بتلك الاوصاف التي ذكرها الببغاء تستطيع المشاركة في مسابقات جمال الحمير دون ادنى تردد. ولانه لا يوجد شيء في هذه الحياة لا يوجد له معارض واحد على الاقل، فقد اعترض احدهم على عبدالله السالومي الذي سخر نصف قلمه للكتابة عن الحمار، والتحسر على زوال عصره الذهبي، والدفاع عن قضاياه الصغرى، وتركه الكتابة عن القضايا الكبرى، وما اكثر القضايا الكبرى، وما أسأم المقالات الإنشائية التي تكتب عنها! وفي معرض رده على عبدالله اقترح عليه ان يكتب عن (الناقة) سفينة الصحراء بدلا من الحمار. ومع كل المودة والتبجيل للناقة الا ان ذلك الاقتراح مبطن بالتعالي والشعور بالفوقية، كما ان ذلك تمييز لا ترضى به جمعيات الرفق بالحيوان. وقد فات على صاحب ذلك الاعتراض ان عبدالله منحدر من عائلة فلاحية ارتبطت مصالحها ونشاطاتها الاقتصادية بهذا المخلوق النافع المنتج، واتجهت عواطفها كلية نحوه، وان عبدالله لا يعرف عن الناقة الا قدر معرفتي باحوال البورصة، او ادبيات كرة اليد. ويذكرني هذا الاعتراض باعتراض احد المتجهمين على ابن عائشة، (ت: 228ه) وهو احد الفصحاء البلغاء، وعالم بالحديث والسير، وقد روى عنه ابن الجوزي احاديث ملاحا فيها رفث. يورد ابن الجوزي خبر رجل اعترض على ابن عائشة قائلا: (أيأتي من مثلك هذا؟ فقال له ويحك اما ترى اسانيدها؟) وكان يعني ان من روى عنهم هذه الملح والطرف هم خيرة العلماء، وصفوة العقلاء. لكن الله منحهم، اضافة الى غزارة العلم ورجاحة العقل، حس الدعابة وخفة الظل، ولذة المفاكهة، وحسن المعشر. لقد حرك هذا الحيوان الصابر المفترى عليه خيال كثير من الادباء والمفكرين وبالتالي فقد ساهم، ولو بشكل غير مباشر، في دنيا الفن والادب. كتب توفيق الحكيم كتابه (حمار الحكيم)، وكتب عزيز نيسين (مذكرات حمار ميت) وكتب مجيد طوبيا (التاريخ العريق للحمير). اما الشعراء فقد نظموا في مديح ورثاء ووصف وهجاء الحمير الشيء الكثير، وكانت تلك الاعمال الابداعية روائع في عالم الادب الضاحك. اما صديقنا الاستاذ محمد رضا نصر الله فلم يتذكرني يوما في كتاباته الا حين نبش سيرة الحمير في مقاله المنشور في جريدة الرياض تحت عنوان (حمير غزة بين حبيبي وكنديد) وهو مقال لاقى صدى طيبا في الاوساط الفلسطينية مما حدا بالاستاذ هشام البرغوثي شقيق المناضل الفلسطيني مروان البرغوثي الى التعليق على مقال الاستاذ محمد رضا نصر الله، مبديا اعجابه بالمقال، وقد ذيل نصر الله مقاله ذاك باهدائه - على غير العادة - الى كاتب هذه السطور، متمنيا لو اني قد تناولت هذا الموضوع بقلمي، واود ان اؤكد عبارة (على غير العادة) لان نصر الله نادرا ما يهدي الي شيئا مهما اذا استثنيت ذلك المقال الرائع. اذكر انه اهداني مرة كتاب (التاج) للجاحظ، تعويضا عن كتاب آخر قيمته عشرة ريالات، وعنوانه (اشعار اللصوص واخبارهم) كان قد اهدانيه من قبل ثم عاد و(استعاره) من مكتبتى. وانا اضع مفردة (استعاره) بين قوسين اعتمادا على ذكاء وفطنة القارئ الكريم، مع الاعتذار عن هذا الاستطراد الذي نأى بنا عن لب الموضوع. الجعبة مليئة بأدبيات ابي الصلاصل، لكن المساحة بدأت تضيق وللقسم الفني بالجريدة احكامه التي لا تعارض! هامش: قال أحدهم يداعب أديبا مات حماره: ==1== مات حمار الأديب قلت: قضى==0== ==0==وفات من أمره الذي فاتا مات وقد خلف الأديب ومن==0== ==0==خلف مثل الأديب ما ماتا ==2==