ومن الملاحظات التي تستحق التأمل طويلا في اطار المقابلة بين الدين والفلسفة، ان الفلاسفة يتوجهون بافكارهم الى نخبة المجتمع، ولا يحفلون كثيرا بالعامة، لاسيما منها الطبقات الدنيا التي تشكل الغالبية في اي مجتمع، فالخطاب الفلسفي خطاب متعال، على النقيض من الخطاب الديني الذي يتوجه الى كل الناس، بمختلف طبقاتهم وشرائحهم، مع التركيز على الطبقات المسحوقة. وربما لهذا السبب نجد ان الافكار والنظريات الفلسفية على الرغم من كثرتها وكثرة الفلاسفة على مدار التاريخ البشري فإنها نادرا ما أدت لتغيير ملموس في أحوال الناس، على النقيض من الافكار الدينية التي كان لها تأثير اعمق واوسع بكثير مما كان للافكار الفلسفية، اللهم الا تلك الافكار الفلسفية التي آمن بها بعضهم، ورفعوها الى مصاف العقائد الدينية، وخاضوا من اجلها الثورات الدامية، كالفلسفة الماركسية التي اشعلت الثورة البلشفية في روسيا (1917)، والثورة الثقافية في الصين (1949)، هاتان الثورتان الدمويتان اللتان احدثتا بعض التحولات الاجتماعية، واحرزتا بعض التقدم العلمي والتقني، وتجاوزتا في بعض الاحيان حدودهما الجغرافية وانتشرتا في مطارح بعيدة من الارض، الا ان الضريبة التي ظلت الشعوب تدفعها جراء تلك الافكار الفلسفية المتناقضة مع مصالح العباد والبلاد كانت باهظة التكاليف الى الحد الذي جعل اصحاب تلك الفلسفات ومعتنقيها يتخلون عنها آخر المطاف، ويبدأون من جديد رحلة العودة الى الدين، او البحث عن بدائل فلسفية اقل ثورية واكثر واقعية واحتراما لحقوق الانسان وكرامته! ومع تسليمنا بان الابحار في عالم الفلسفة ممتع جدا. وان الفلسفة قد اغنت الفكر البشري بالكثير من المفاهيم التي حملته على التحليق بعيدا وعاليا من اجل رؤية لوجود اشمل وارحب، الا ان ذلك التحليق للاسف الشديد كثيرا ما ابعد الفلاسفة عن رؤية الواقع المعاش، وضلل سعيهم نحو الحلول العملية التي تحتاجها البشرية المنكودة لحل مشكلاتها اليومية العويصة! وهكذا ظل معظم الفلاسفة يحلمون بيوم يأتي على البشرية فيقرأ فيه كل انسان روائع ارسطو ومحاورات افلاطون ولكنهم غفلوا او تغافلوا عن اهم حلم ظل يداعب اجفان البشرية، وهو ان يأتي يوم على الناس يجد فيه كل انسان من القوت ما يقيم اوده او يسكت جوعه.. اما الدين في المقابل فقد كان اكثر التصاقا بهموم الناس وقضاياهم الحيوية، وكان التشريع السماوي اكثر استجابة لحاجات الناس، واكثر احساسا بمعاناتهم! ومما يؤخذ على الفلاسفة ايضا تظاهرهم بالثقة التي لاحدود لها، وزعمهم المبالغ فيه انهم يملكون السفينة المجهزة تجهيزا جيدا، ودفة القيادة الصالحة للاقلاع الى جميع الجهات، الا ان سفينتهم نادرا ما خاضت عباب البحر، بل ظلت تقضي معظم وقتها مسترخية على الشط في انتظار اللحظة المناسبة للابحار، وليست مسرحية (في انتظار غودو) الا مثالا ادبيا واحدا لمثل هذا الانتظار العبثي غير المجدي! واما الدين في المقابل فهو اكثر واقعية واستجابة للفطرة البشرية، وهو لايعد الناس بجنة على الارض كالتي يعدنا بها الفلاسفة المثاليون، بل هو يحضرهم نفسيا لمواجهة اصعب الظروف ويحرضهم في الوقت نفسه على تغيير الواقع المنحرف مهما كانت التضحيات! kanaam @ hotmail.com