عند عودتي من العمل ودخولي المنزل انتابني شعور بالغرابة إذ لم تبادر ابنتي –كعادتها- باستقبالي وتقبيلي، بل كانت جالسة أمام التلفزيون متوجهة بكل حواسها لما يدور داخل الشاشة وكأنها بداخله، لم يكن بإمكاني أن أرى ما يشدها حيث كانت تقف قبالة الشاشة تماماً حاجبة الرؤية عني، لكني كنت أسمع صوت فتاة تصرخ وتكرر بشكل تحريضي عبارة واحدة: «اقلبوا الشاحنة اقلبوا الشاحنة». كانت ابنتي تشاهد حلقة من مسلسل «هيا أرنولد» في قناة نيكلوديون (ما تعرف نيكلوديون ؟!)، وكانت «هِلجا» هي الفتاة التي كانت تصرخ وتحرض بقية أصدقائها الصبية بقلب سيارة الآيس كريم. وبالفعل كانت هناك مجموعة من الصبية الغاضبة تحاول قلب سيارة الآيس كريم بهزها من جهة واحدة. وبداخل السيارة يقف بائع الآيس كريم وهو متمسك بطرفي الباب الخلفي للسيارة وتبدو على ملامحه علامات الخوف من اهتزاز السيارة وتعالي أصوات الصبية. نحن الآباء نعلم أن بين الأطفال وسيارة الآيس كريم علاقة خاصة جداً، حتى إن أحد المعلمين أبدى لي أمنيته بأن يكون بائع آيس كريم ليتمكن من استقطاب حب وانتباه طلابه الصغار، فما الذي يجعل «هِلجا» وصبيتها أن ينقموا على السيارة وبائعها إلى هذا الحد؟! أبطلت ابنتي عجبي عندما أخذت تشرح لي السبب وراء غضب الصبية، إذ قالت بأن الحي –وعلى غير العادة- يمر بيوم حار جداً، فاستغل بائع الآيس كريم هذا الظرف وضاعف سعر الآيس كريم على الصبية الأمر الذي أثار غضبهم فهبوا لقلب سيارة الآيس كريم تعبيراً عن رفضهم لهذا الاستغلال البغيض. أعلم وتعلم بأنه بعد هذه الحزمة من المكارم الملكية سيحاول بعض التجار المستغلين خطف ما في أيدينا من خير،وسنجد في السوق الكثير من البائعين الجشعين الذين ينظرون لنا وفي ذهنهم تتكرر كلمة «راتبين، راتبين».تثير إعجابي هذه الرسائل السامية العصرية عندما تأتي عبر التقنيات الحديثة التي يألفها الجيل الجديد، مثل هذه الرسائل تصل إلى قلوب وعقول الأبناء بكل بساطة حيث تلقى القبول الذي لم يعد يلقاه الوعظ والتلقين. تركت ابنتي وهلجا ومعهم بائع الآيس كريم متجهاً إلى غرفتي لتبديل ملابسي، وفي هذه الدقائق المعدودة قلبت في خيالي مجموعة من الشاحنات حتى تصورت بأنني لو استمررت في خيالي سأملأ الأرض بالشاحنات المقلوبة. أعلم وتعلم بأنه بعد هذه الحزمة من المكارم الملكية سيحاول بعض التجار المستغلين خطف ما في أيدينا من خير، وسنجد في السوق الكثير من البائعين الجشعين الذين ينظرون لنا وفي ذهنهم تتكرر كلمة «راتبين، راتبين»، وسيكون هناك الكثير من مدراء التسويق في شركات -تبدو محترمة- سيقومون برفع الأسعار بناء على قاعدة تسعيرية حديثة وهي 15 بالمائة...أما أنا وأنت فما نملك إلا أن «نقلب الشاحنة».