تتناثر جثث ضحايا المعارك على طول الطريق المتربة القذرة المؤدية إلى بلدة توريت في الجنوب السوداني. بعضها تخبئه الحشائش وأخرى تتناثر في الأزياء العسكرية المموهة وسط المستنقعات الطينية على مشارف البلدة. توريت البلدة التي استولى عليها المتمردون السودانيون من قوات الحكومة قبل حوالي أسبوعين، ليست مدينة بالمفهوم التقليدي وإنما جادة واحدة يصطف عليها عدد من المتاجر المبنية بالطوب الأحمر. وتكمن أهمية توريت التي تسيطر عليها الآن قوات الجيش الشعبي لتحرير السودان في موقعها الاستراتيجي، فهي قريبة من نهر النيل والحدود الأوغندية والكينية وقريبة من جوبا عاصمة الجنوب السوداني. المعارك المستمرة تقوض الأمل في السلام داخل واحدة من الثكنات التي كانت تقيم فيها القوات الحكومية كان جنود الجيش الشعبي يرددون أغنية للنصر، بينما أكد لي ويلسون دينج كويرويت قائد القوة أن الاستيلاء على توريت كان نصرا كبيرا . معنويات منخفضة وبينما نحن واقفون مرت إحدى الدبابات التي استولى عليها المتمردون من القوات الحكومية وهي في طريقها إلى جبهة القتال الجديدة على بعد 65 كيلومترا. وفجأة توقف الجنود عن الغناء وحلقوا نحو السماء، بعدها جاء صوت القائد صارخا قاذفة أنتينوف أسرعوا إلى الملاجئ . كانت قاذفة حكومية تحلق فوقنا وسط السحاب لكنها استدارت غربا دون أن تلقي قنابل. يقول كويرويت إن معنويات العدو منخفضة للغاية . وأشار إلى سبعة من الأسرى صغار السن قائلا : لقد جندوا عنوة لكي يحاربوننا من أجل قضية لا يفهمونها . وقد وقف الأسرى صامتين في الساحة بينما بشرتهم الفاتحة قليلا وملامحهم تتناقض تماما مع الأفارقة السود الذين يحيطون بهم. محادثات متضاربة لكن هذا الحديث المتشدد والنشاط العدواني يتناقض تماما مع التقدم الكبير الذي أحرزه الجانبان تجاه تسوية شاملة للصراع. ففي يوليو الماضي توصل الجانبان إلى اتفاق مشاكوس الذي سمي باسم الضاحية التي وقع فيها بالعاصمة الكينية نيروبي. وقد وافقت حكومة الخرطوم على عدم تطبيق قوانين الشريعة على جنوب السودان وعلى إمكانية تقاسم الثروة والسلطة.. لكن الأكثر أهمية في بنود الاتفاق تمثل في موافقة الخرطوم على حق الجنوب في الاستقلال تماما لدى إجراء انتخابات حول تقرير المصير بعد ست سنوات من الحكم الانتقالي. ويقول محمد أحمد درديري الوزير السوداني المفوض في نيروبي .. لقد أوضحنا أنه إذا كان السلام سيعني انفصال ذلك الجزء من البلاد، فلم لا؟ نحن مستعدون للمضي قدما والموافقة على انفصال الجنوب . لكن هجوم المتمردين على توريت واستيلاءهم عليها دفع الحكومة إلى الانسحاب من مفاوضات السلام. وتطالب الخرطوم في الوقت الراهن بوقف تام لإطلاق النار قبل استئناف المفاوضات. الاستيلاء على الأراضي وقد أثبتت السنوات الماضية أن إنهاء الصراع الصعب والمعقد في جنوب السودان ليس بالأمر الهين. فالجانبان حريصان على ما يبدو على الاستيلاء على مزيد من الأراضي في المنطقة التي تحيط بحقول النفط المكتشفة حديثا في ولاية أعالي النيل قبل بدء سريان وقف إطلاق النار أو قبل انهيار العملية السلمية برمتها. لكن الشعب السوداني بات يتحرق إلى السلام بعد 19 عاما من الصراع الذي أدى إلى مقتل حوالي مليوني شخص. تقول نون كارينا التي تبلغ من العمر 28 عاما وهي تسير بين الأحراش في منتصف النهار مع ابنتيها : إنني أشعر بالضياع . نون هي واحدة من عشرات الآلاف الذين شردتهم المعارك في ولاية أعالي النيل الغربية. وتروي كيف أجبرت على مغادرة قريتها في يوليو الماضي عندما تعرضت لهجوم من المروحيات الحكومية، والآن أصبحت بمنأى عن بقية عائلتها. وتقول نون : هذا يحدث ثلاث أو أربع مرات سنويا، لكننا دون حول أو قوة، لو وجدنا من يدعمنا لما هربنا دائما .