بدون اختلاف لا تتقدم الفنون , وبدون جذور لا تبقى , وهذا قانون حكم تطور الإبداع عبر العصور . والظاهرة الفنية تمر عبر مسيرتها بعمليتين رئيسيتين: الأولى عملية الفقد حيث تتخلص من بعض مظاهر سابقتها , والثانية عملية الإضافة حيث تضيف إليها شيئا جديدا , وهما عمليتان ناتجتان عن وعي من المبدع , وإلا أصبحتا ضربا من الضياع الذي يؤدي إلى تجاهل هذه التجارب . فلو نظرنا إلى الرومانسية - مثلا - لوجدناها جاءت نتيجة تفاعل مع الكلاسيكية , أخذت منها وتركت , وأضافت واختلفت , وكذلك الأمر بالنسبة للمدارس الأخرى. لا شيء يأتي من فراغ , ولا شيء يفضي إلى فراغ , وكل جيل يكتسب ممن قبله , ويضيف ما يشكل خصوصيته , ثم إن القيم الإبداعية تتراكم لتشكل قيما متماسكة على الرغم من الصراعات. إن وراثة الخلف للسلف أمر ذو أهمية بالغة إلا أن هذه الوراثة يجب ألا تقف عند حدود التقليد بل يجب أن تتجاوز ذلك إلى الإبداع . و المبدع الناشئ يتأثر كثيرا بسلفه , فكرا وفنا , وقل أن نجد مبدعا حقا لم يحدث له مثل ذلك . يقول دستويفسكي : إننا جميعا خرجنا من معطف غوغول إشارة إلى قصة غوغول ( المعطف ) وأثرها على كتاب جيل دستويفسكي , وهو تأثير لا سيطرة . ويقول محمود درويش في معرض تقريضه لديوان أبي سلمى ( من فلسطين ريشتي ) : "أنت الجذع الذي نبتت عليه أغانينا" , فهو يراه جذعا بينما أينعت الأغاني منطلقة من هذا الجذع وليست صورة له , بدليل أن نتاجهم لا يذكر بشيء مباشر بنتاج أبي سلمى . إذن الإبداع متطور ولكنه ليس منبتا , بل لابد من اتصاله بجذوره , ويمثل المبدعون السابقون جانبا مهما في هذه الجذور.