كانت آمد اعظم مدن ديار بكر.. واجلها قدرا واشهرها ذكرا بلد قديم حصين مبني بالحجارة السود على نشز مرتفع تحيط به دجلة من أكثر جهاته على شكل هلال. وفي وسطها انهر وجنان وآبار وبساتين ويحيط بها سور. وكانت بلدة منيعة لا يمكن الوصول اليها الا بالقوة الغالبة. فلما آلت الخلافة الى المعتمد احمد بن المتوكل اعتكف على الملاهي وآثر اللذات. واخذ يبذرالاموال فيما لا طائل وراءه بدلا من انفاقها في اصلاح احوال الامة فقامت الفتن بجميع النواحي..وكان من بين القادة الطامحين الى الاستقلال احمد بن عيسى بن الشيخ عبدالرزاق الذي الف جيشا اقتحم به مدينة آمد واستولى عليها. واستقر في الولاية الى ان توفي. فلما آل الامر الى ابنه محمد كانت الخلافة قد آلت الى المعتضد الذي كان سجينا في المطبق للتخلص منه ومن مطالبته بالحكم، فهاله ما وصلت اليه احوال الامة من التفكك والفتن. فأخذ نفسه بالحزم والشدة والاقدام. وكان قليل الرحمة كثير الاقدام سفاكا للدماء. فقرر ان يبدأ عهده باخماد الفتن واستعادة التطور الذي لعبت به أهواء الطامعين.. وكان يظن ان محمد بن احمد، المستولي على آمد. ما ان يعلم بتوليه الخلافة حتى يوافيه معلنا الولاء والطاعة. فلما لم يحدث شيء من هذا بعث اليه رسالة حملها شعبة بن شهاب اليشكري ليكون سفيره الى ذلك الخارج على الدولة. وقال له: اذهب الى هذا الذي قاد الفتنة في آمد واستبد بالبلاد والعباد وابلغه رسالة اميرالمؤمنين لاخذ الحجة عليه. انطلق شعبة بن شهاب الى آمد وبعد ان وصل هجم بدون استئذان على مجلس محمد بن أحمد، وكان يؤمل ان يجد ذلك المجلس غاصا برجال الفكروالرأي والمشورة من العلماء والمثقفين وأرباب السيف والقلم.. غير ان ظنه كان في غير موقعه فسلمه رسالة المعتضد. فلم يلتفت اليها وانصرف الى اصحابه.. فخرج شعبة وقد امتلأ قلبه غيظا وحسرة على ما يصيب البلاد والعباد من هذا وأمثاله ممن لا يقدرون عواقب الامور ولا تهمهم التضحية بمن يفترض ان يكونوا مواطنيهم واعوانهم ولم تكن عمة (محمد) المعروفة بأم الشريف، راضية عن حركة الانفصال التي قادها أخوها من قبل. وحاولت ان ترأب الصدع وان تتوسط لاصلاح ما فسد بين اخيها ودار الخلافة فلم تفلح جهودها فلما علمت بوفود شعبة بن شهاب على ابن اخيها بعثت اليه تطلب حضوره اليها فلما حضر وأدى واجب السلام. قالت: كيف خلفت أمير المؤمنين المعتضد؟ فقال: خلفته والله ملكا جذلا وحكما عدلا. آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، متعززا على أهل الباطل، متذللا للحق لا تأخذه في الله لومة لائم. فقالت: هو والله اهل لذلك ومستحقه ومستوجبه. وكيف لا يكون كذلك وهو الخليفة المؤتمن على عباده اعز به دينه واحيا به سنته وثبت به شريعته.. وبعد مزيد من الدعاء قالت: وكيف رأيت صاحبنا تعني ابن أخيها محمد بن احمد؟ فقال: رأيت غلاما حدثا معجبا قد استحوذ عليه السفهاء فاستمد بآرائهم.. وأنصت لأقوالهم. فهم يزخرفون له الكلام ويوردونه الندم. وكانت أم الشريف تهز رأسها بعد كل جملة وتحوقل وتسترجع فلما سكت قال: فهل لك ان ترجع اليه بكتاب علنا نحل ما عقده السفهاء؟ فقال: أجل. شكرته وصرفته وواعدته في الغد لأخذ الكتاب. فلما حضر سلمته كتابا لطيفا فيه الكثير من الوعظ والنصيحة والأمل ان يجنب الله المسلمين الفرقة وان يحقن دماءهم واموالهم فأخذ الكتاب.. وانطلق به الى ابن اخيها. وهو في غاية السرور ظنا منه أن الموجه اليه الخطاب سيرعوي ويفكر في عواقب الامور. غير ان ابن أخيها بعد ان قرأ الكتاب رمى به اليه وقال: يا أخا يشكر ما بآراء النساء تساس الدول.. ولا بعقولهن يساس الملك. ارجع الى صاحبك. قال شعبة: فرجعت الى أمير المؤمنين فأخبرته بما جرى عن حقه وصدقه فقال: وأين كتاب أم الشريف فأظهرته فلما عرض عليه أعجبه ما فيه من نصيحة خالصة لوجه الله. فقال: اني لأرجو ان اشفعها في كثير من القوم وأمر من وقته باعداد العدة والمسير لغزو آمد. ورغم بعد المسافة بين سامراء وديار بكر. ورغم الانهاك الذي اصاب الغزاة فان حصارهم لآمد لم يدم كثيرا حيث اطلع محمد بن احمد من السور فهالته جيوش دار الخلافة وما لديها من سلاح وعتاد. فطلب الامان له ولافراد اسرته. ومن يلوذ به بعد ان اشتد القتال وتساقط الكثير من رجاله وقواده. فلما نزل من الحصن وسلمت المدينة قال المعتضد لشعبة بن شهاب: هل عندكم علم من أم الشريف؟ فقال: لا والله. فقال له: امض مع هذا الخادم فانك تجدها في جملة نسائها. فلما بصرت به أسفرت عن وجهها وقالت: ريب الزمان وصرفه وعتوه كشف القناعا وأذل بعد العز منا الصعب والبطل الشجاعا ولقد نصحت فما أطعت وكم حرمت بأن أطاعا فأبى بنا المقدور الا ان نقسم أو نباعا يا ليت شعري هل ترى يوما لفرقتنا اجتماعا ثم بكت وضربت بيدها على الاخرى وقالت: يا ابن شهاب كأني والله كنت أرى ما رأيت ف"إنا لله وإنا اليه راجعون". فقال: ان امير المؤمنين قد وجهني اليك وما ذاك الى لحسن رأي منه فيك. قالت: فهل توصل رسالة مني إليه؟ قال: نعم. فقالت: قل للخليفة والإمام المرتضى وابن الخلائق من قريش الأبطح بك أصلح الله البلاد وأهلها بعد الفساد وطالما لم تصلح وتزحزحت بك قبة العز التي لولاك بعد الله لم تتزحزح وأراك ربك ما تحب فلا ترى مالا يحب فجد بعفوك واصفح فلما قرأ الخليفة قولها أمر ان تحمل اليها والى من معها من النساء الكثير من نخوت الثياب والأموال. ولابن اخيها مثل ذلك وشفعها في كثير من بني قومها. وأمر باعادتها الى آمد معززة مكرمة وقال لشعبة: يا ابن شهاب لقد صدق رأينا في هذه المرأة كما ترى.