لاشك في أن الجهود العربية الموحدة خلال الفترة الأخيرة ستحدث آثارها في الساحة السياسية الأمريكية وفي خلخلة الرؤية الخالية من آليات التنفيذ لعملية التسوية والتي أعلن عنها الرئيس بوش في خطابه الشهير في الحادي عشر من الشهر الماضي دعوت في مقال بصحيفة اليوم كافة الزعماء العرب إلى العمل على ملء الفراغ السياسي الخطر الذي خلقه خطاب بوش، وكان اجتهادي في ذلك المقال محدد المعالم فلقد اعتبرت المبادرة العربية التي أطلقتها السعودية وتبنتها جميع الدول العربية في قمة بيروت سلاحاً فعالاً قادراً اذا ما أعدنا شحذ نصاله وإطلاقه على ملء الفراغ وإحباط مخططات شارون لاستخدام حالة الفراغ في تطبيق سياسة فجور القوة ضد الفلسطينيين وربما ضد سوريا ولبنان أيضاً وإذا كان الكاتب المهموم بقضايا أمته لا يكتفي عادة بإطلاق الصيحات بل يتابع مجريات الواقع ليكتشف ما اذا كانت صيحته قد حققت صدى او أنها صادفت حالة توافق ارادات مع الحركة السياسية المطلوبة فان متابعتي للتحركات العربية منذ نشر ذلك المقال تحت عنوان "لماذا يخشى الإسرائيليون المبادرة العربية" قد أسفرت عن إحساس عميق بالاطمئنان، فلقد دللت اجتماعات لجنة المبادرة العربية التي انعقدت بالقاهرة على مستوى وزراء الخارجية على أن ساسة هذه الأمة يدركون خطورة حالة الفراغ السياسي الذي خلفها خطاب بوش كما انهم يواجهون الجوانب السلبية في رؤية بوش مواجهة حازمة خاصة فيما يتعلق بتركيزها على الزاوية الأمنية وقضية الإصلاحات في السلطة الفلسطينية وإهمالها للجانب السياسي الخاص بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي من ناحية وفيما يتصل بإغفال هذه الرؤية للجدول الزمني اللازم لتحقيق التسوية السياسية والذي يجدول الالتزامات التي يجب على الجانب الإسرائيلي القيام بها لإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية. من هنا جاء تمسك وزراء الخارجية العرب بالإعلان عن انهم لا يقبلون أي رؤية للتسوية او أي مشروع سوى المبادرة العربية المقررة في بيروت مدعاة لاطمئنان عميق أشعرني بأن مقولة موشي ديان وزير الدفاع الإسرائيلي خلال حرب 1967 والتي يحاول شارون اليوم إقناع الإدارة الأمريكية بصحتها وصواب التعامل على أساسها مع العالم العربي إنما هي مقولة تبطلها القبضة العربية الموحدة وحالة اللحمة السياسية والشعبية التي تحتضن وطننا العربي الكبير في المرحلة الراهنة، فلقد قال موشي ديان بعد أن نجحت قواته في احتلال أراضى ثلاث دول عربية في حرب يونيو 1967 "لقد وجدت الخريطة العربية رخوة مرت فيها قواتي كما تمر السكين في قطعة الزبد". إن التمسك العربي بالمبادرة واعتبارها المشروع الوحيد للسلام الذي تقبله الأمة يعني بكل صراحة كما عبر عن ذلك أمين عام الجامعة العربية في أعقاب اجتماع لجنة المبادرة رفض الجوانب السلبية في خطاب بوش والعمل على تنمية جوانبه الإيجابية لترقى رؤيته إلى مستوى المبادرة العربية ومشروعها المتكامل القائم على مقايضة كل الأرض المحتلة عام 1967 وحق العودة لخمسة ملايين لاجئ فلسطيني بالسلام. وإذا كان هذا الموقف المبدئي الصلب يأتي ليقول بوضوح للساحة السياسية الأمريكية إن الخريطة السياسية العربية ليست بتلك الرخاوة التي يشيعها شارون ويحاول خطاب بوش اختبارها.. فان أهم ما يجب على كافة أعضاء النخبة الثقافية والروحية في العالم العربي سواء منهم من يملك ناصية الكتابة والقلم او من يملك ناصية البلاغة والخطابة، هو أن يلتفوا جميعاً حول الموقف الصلب الذي اتخذته قياداتنا السياسية وان نظهر للقائمين على إدارة الساحة الأمريكية والساحة الإسرائيلية أن الركن الركين في صلابة الخريطة السياسية العربية إنما يتمثل في رباطين متينين، الأول رباط يجمع كل مجتمع عربي ويشد كافة قواه الثقافية والروحية في لحمة واحدة مع قيادته السياسية حول هدف إحقاق الحق العربي في فلسطين، والثاني رباط يضم كافة الزعماء العرب على نفس الهدف ويوحد صفوفهم في حالة المواجهة السياسية مع الجوانب السلبية في رؤية بوش والتي تتناسب مع مخططات شارون. إن مهمة النخبة الثقافية والروحية في كافة المجتمعات العربية هي أن تشد أزر قياداتنا في موقفهم الصلب الذي يقتضي بطبيعة الأمر مزيداً من الجهد والوقت ليحقق أهدافه الكاملة في تحرير الأرض العربية. ومن المهم هنا أن نلاحظ أن التفويض الذي منحته لجنة المبادرة العربية لكل من مصر والمملكة والأردن لتمثيل اللجنة في الاتصالات الدولية سواء مع اللجنة الدولية الرباعية المشكلة من الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وروسيا، يعني أننا سنشهد في الفترة المقبلة مزيداً من التنسيق بين هذه الدول العربية الثلاث باعتبارها ممثلة للقمة العربية ومبادرتها. إن هذا التوجه العربي نحو إنشاء الفعاليات الضرورية للتنسيق والمتابعة بين الحكومات العربية يمثل من وجهة نظري إحد الضمانات للحفاظ على الرباط بين الساسة العرب في المرحلة المقبلة لتأكيد مبدأ صلابة الخريطة السياسية العربية في مواجهة أية محاولات للاملاءات الخارجية. إن من أهم التحديات المطروحة علينا في المرحلة المقبلة ذلك المشروع الذي بدأت ملامحه تفصح عن نفسها في خطط شارون والذي يصاغ تحت شعار "الأرض مقابل الوقت". إن هذا المشروع يعني ببساطة أن شارون سيحاول الحصول على موافقة الإدارة الأمريكية على فكرة السماح بالإعلان عن الدولة الفلسطينية المؤقتة مقابل موافقة العرب على تأجيل قضايا التسوية النهائية المتصلة بالحدود والقدس واللاجئين إلى زمن بعيد يتراوح بين عشر وخمس عشرة سنة. إن هذا المشروع يتطابق مع البرنامج السياسي لحكومة شارون الائتلافية وهو يعني في حقيقة الأمر تطبيق حل مرحلي طويل الأمد يسمح لإسرائيل بمواصلة عمليات قضم وهضم ارض الضفة الغربية من خلال التوسع الاستيطاني. من هنا وأعود فأكرر أن موقف الزعماء العرب في التمسك بالمبادرة العربية ورفض أي مشروع اخر للسلام يجب أن يحظى بالتقدير والمساندة الشعبية العربية الجارفة. ليشعر الطرف الآخر أن مناعة الخريطة السياسية العربية مؤسسة على رباط شعبي ورسمي متين. * جامعة عين شمس القاهرة