بعد تخرجي في الجامعة...وتسلحي بالعلم والثقافة..توجهت للبحث عن عمل ذات صباح ، وبعد أن تناولت فطوري في (البوفيه) الملاصق لمكتبة المتنبي سابقاً اتجهت نحوها لأجدها (سوبر ماركت) رأيت ركن المجلات والصحف قلت: * مازالت الدنيا بخير!! تناولت إحدى الصحف المحلية تصفحتها قليلاً وأنا عازم على شرائها؛لكن نظرة البائع تتحرش بي وبعنادي يوقظ في داخلي غضبا لم تروضه أبداً ابتسامة خجلة نظرت إلى إعلان في شركة أنشئت حديثاً يريدون محاسباً.. ترددت قليلاً.. ثم توجهت إلى البائع ونقدته المال ثم انصرفت لا ألوي على شيء. يبتلع الطريق خطواتي التائهة.. وكأن الأرض تنتقم مني وفجأة تذكرت الإعلان.. فتحت الصحيفة.. ملت بجسدي قليلاً إلى جدار متهدم سقط جزء منه.. تحت شجرة (النيم) الكبيرة نظرت إلى الإعلان مرة أخرى ولكن بتمعن بعيداً عن أعين الرقابة!! سألت نفسي إلى أين أذهب؟ إلى أين أسير؟!! لتجيبني قدماي حيث اتجهتا نحو منزلنا الشعبي في حارة (الصابرين) دلفت إلى المنزل مسرعاً لأجد أعين الأهل تسألني ماذا فعلت اليوم؟!! اتجهت إلى غرفتي...ثم إلى الحمام لأغسل جسدي.. وينهمر علي الماء.. وعندما خرجت متدثراً بالمناشف من الهواء البارد المنبعث من الغرفة..يرتجف جسمي كلما اقتربت أكثر؛ لكن الارتجافة الكبرى التي أثلجت جسدي عندما مرت بي والدتي العجوز قائلة: * هذا اللي فالح فيه!!! * ترن...ترن...ترن. * رد على الجوال يا أحمد.. دخلت مسرعاً ترن...ترن...ترن. * يا أحمد رد على الجوال... * دخلت مسرعاً متمتماً بأغنية محمد عبده يا بنت النور، لأنها نغمة الجوال... نظرت إلى الرقم على الشاشة صديق (مغثة) من أصدقاء المقهى.. لعله يريد أن نلتقي بالمقهى أو نتجول على الشاطئ قليلا، ضغطت بإبهامي على (الزر الأخضر) تذكرت في التو (عجائز الضمان الاجتماعي). * هلا...مرحباً...حسن. * وينك يا أحمد؟ * في البيت... * افتح التلفزيون.. سيأتي برنامج المتنبي. * أيش تعرف عنه!!؟ * صاحب ورشة عندنا في الحارة!! * أشوفك الليلة؛ وسلم لي على المتنبي!! اتجهت نحو التلفزيون لأجد أخوتي يتحلقون حول الجهاز يشاهدون (هايدي) لم أستأذنهم.. مباشرة غيرت القناة.. لأجد كلمات نابية تعانق أذني.. تماسكت قليلا.. ذهبت أختي الصغيرة التي تبكي متبرمة من الموقف؛ لأنها لم تكمل (هايدي) بينما لاذ (معيض) بالصمت؛ لأني أنا الأكبر!! رميت بجسدي على فراش وثير مخمل انتظاراً للمتنبي...وأنا أشاهد المناظر والإعلانات أحسست بالنوم يداهم مقلتي مخلفاً غباراً وراءه؛لا أكاد أرى وجهه ولا هيئته،وقلت: لعله المتنبي أو الشخصية التي تجسده... أنها مقدمة رائعة فيها إثارة. يقترب أكثر تبدو ملامح الرجل.. يرتدي قميصاً وبنطالاً وحزاماً... قلت في نفسي: إنها حداثة العصر في طرح الشخصية وعرضها في قالب عصري يوافق العصر بل قد تكون دعوة إلى البحث عن شاعر معاصر يماثل الأول راقت لي الفكرة... رجل عصري يمتطي حصانا... ربط بين الماضي والحاضر...حدقت أكثر في المشهد انه يحمل حبلاً لماذا؟... هل سيقدم على الانتحار؟... سيشنق نفسه؛ لأنه لم يجد شاعراً مثله تذكرت أحمد شوقي والجواهري...وشعراء شعبيين.. وتساءلت لماذا هذا الحبل؟تطلعت إلى المشهد ومن حوله الخيول محاولاً الإمساك بإحداها.. ليركض مجرجراً الذي أمسكه وراءه...ثم يقف فجاءة والعرق يتصبب من جبينه.. يلهث؛ ليخرج علبه سجائر من جبيه ويشعل واحدة!!! ضحك معيض من المشهد وقال:المتنبي يدخن!!! نظرت إلى معيض بامتعاض وقلت له: لا تضحك... انه مجرد إعلان عن علبة سجائر... إعلان تافه... ثم حولت القناة إلى ما كانت عليه نادماً على ما فاتني.. وفات إخوتي... صالح أحمد القرني