غادر آخر الجنود الاميركيين العراق بعد حوالى تسع سنوات من احتلال مثير للجدل باسبابه وفصوله، تاركين خلفهم بلادا تعيش على وقع ازمات سياسية مغلفة بتحديات امنية كبيرة. وكان جنود اللواء الثالث من فرقة سلاح الفرسان الاولى آخر من اجتاز الحدود العراقية الكويتية، بعد نحو ثماني سنوات وتسعة اشهر من عبور القوات الاميركية للحدود ذاتها في الاتجاه المعاكس في بداية “عملية تحرير العراق”. وغادر الموكب الاخير الذي ضم 110 آليات تحمل على متنها 500 جندي معسكرا يبعد حوالى 350 كلم عن المعبر الحدودي العراقي الكويتي الذي لفته الاسلاك الشائكة، عند حوالى الساعة 02,30 “11,30 تغ”. وبدات آخر الآليات الاميركية تجتاز المعبر الحدودي عند الساعة 07,30 “04,30 تغ” وسط تصفيق وصيحات الجنود، قبل ان تسدل بعد ثماني دقائق من ذلك الستار على اكثر الحروب الاميركية اثارة للجدل منذ حرب فيتنام قبل نحو نصف قرن. وقال الجندي مارتن لمب لدى وصوله الى المعبر الحدودي “انها لحظة تاريخية”، فيما راى زميله جوزف الذي فضل عدم الكشف عن اسم عائلته ان “العراقيين سيستفيقون اليوم ولن نكون نحن هناك”. وسيبقى في العراق 157 جنديا اميركيا يساعدون على تدريب القوات العراقية ويعملون تحت سلطة واشراف السفارة الاميركية، اضافة الى فرقة صغيرة من المارينز مكلفة حماية بعثة بلادها الدبلوماسية. وجاء الانسحاب الاميركي تطبيقا لاتفاقية امنية وقعت عام 2008 بين بغداد وواشنطن علما ان الرئيس الاميركي باراك اوباما اكد في تشرين الاول/اكتوبر الانسحاب الكامل اثر رفض العراق منح آلاف الجنود الاميركيين حصانة قانونية. وبعد ان بلغ عدد الجنود الاميركيين ذورته عام 2007 بانتشار 170 الف جندي انهمكوا في محاربة التمرد المسلح، بقي حوالى 50 الفا منهم لدى انتهاء العمليات القتالية في اب/اغسطس 2010 انشغلوا في تدريب القوات العراقية. وتترك القوات الاميركية العراق بعد ساعات من انزلاق البلاد نحو ازمة سياسية مستجدة تمثلت في تعليق قائمة “العراقية” التي يقودها رئيس الوزراء الاسبق اياد علاوي والمنافس السياسي الابرز لرئيس الوزراء نوري المالكي، مشاركتها في جلسات البرلمان بدءا من السبت اعتراضا على “التهميش”. واوضحت “العراقية” “82 نائبا من 325′′ في بيان انه “انطلاقا من مسؤولياتنا الاخلاقية والدستورية والسياسية “...” تعلن القائمة تعليق مشاركتها في جلسات مجلس النواب اعتبارا من يوم السبت والى اشعار اخر”. وتابع البيان ان القائمة “عبرت مرارا عن رفضها لسياسات الاقصاء والتهميش والتفرد بالسلطة “...” وعدم الالتزام بالدستور وخرق القوانين والتعامل بمنهجية القمع وارهاب الناس خاصة في ادارة الملف الامني”. وتضاف ازمة تعليق القائمة العراقية لعضويتها في البرلمان، الى ازمة سياسية اخرى تتمثل في مطالبة محافظات تسكنها غالبيات سنية بالتحول الى اقاليم مستقلة، وهو ما يثير انقسامات بين المسؤولين العراقيين. ويرى مراقبون ان السنة الذين خسروا السلطة عام 2003 لصالح الغالبية الشيعية، بعد ان حكموا العراق على مدى نحو ثمانين عاما، يشعرون بان الحكومة تحاول ان تستاثر بالسلطة، لذا يسعون الى انشاء اقاليم مستقلة على شاكلة الاقليم الكردي في الشمال، ما ينذر باحتمال انزلاق البلاد التي عاشت بين عام 2006 و2007 حربا طائفية دامية، نحو مرحلة جديدة من الفوضى. والى جانب الازمات السياسية المستمرة التي ابقت العراق العام الماضي دون حكومة رغم مرور اكثر من ستة اشهر على الانتخابات التشريعية التي جرت في اذار/مارس 2010، يلوح تحد امني خطير امام بلاد لا تزال تشهد اعمال عنف شبه يومية منذ حوالى تسعة اعوام. وفيما يبدو رجال الامن وعددهم حوالى 900 الفا جاهزين مبدئيا للتعامل مع الامن الداخلي، الا ان مسؤولين عراقيين واميركيين يشككون في قدرة هؤلاء على حماية حدود البلاد البرية والمائية وخصوصا الجوية حيث لا يملك العراق اي دفاعات حقيقية ويعتمد فقط على عدد محدود من المروحيات. في موازاة ذلك يواجه العراق الغني بالنفط والذي يصدر حوالى 2,2 مليون برميل يوميا محققا عائدات شهرية بقيمة سبعة مليارات دولار، عجزا في تامين الخدمات الاساسية كالكهرباء والمياه النظيفة. كما يلوح امام العراق خطر تدهور الوضع في سوريا المجاورة التي تشهد حركة احتجاجية منذ منتصف آذار/مارس قتل فيها حوالى 5 آلاف شخص وفقا للامم المتحدة، وامكانية وصول متشددين سنة الى الحكم فيها، اضافة الى احتمال سعي ايران الشيعية لتوسيع نفوذها في البلاد بعيد الانسحاب الاميركي. ورغم كل هذه التحديات، فان الانسحاب الاميركي يسدل الستار على قصة دامية بدات باقتناع ادارة الرئيس الاميركي السابق جورج بوش بان اسقاطها لنظام صدام حسين سيجعلها تفوز تلقائيا بقلوب وعقول العراقيين، فشنت حربا متحججة بالبحث عن اسلحة دمار شامل، تبين انها لم تكن موجودة اصلا. واتخذت القصة منحى مختلفا بعدما عبدت القوات الاميركية الطريق امام تمرد مسلح اثر حل الجيش خصوصا. تسبب هذا الامر بمقتل 125 الف مدني عراقي على الاقل، وآلاف الجنود وعناصر الشرطة العراقيين، اضافة الى حوالى 4474 جندي اميركي، وذلك الى جانب انفاق حوالى 770 مليار دولار من الجانب الاميركي.