رمضان شهر روحاني وليس طقساً سنوياً، هذا هو أول ما خطر في بالي ونحن نستقبل هذا الشهر الكريم فيما تنهال علينا مصفوفات التهنئة وتحيط بنا عشرات العروض التجارية ويدور كل الحديث عن تغير مواعيد الطعام والنوم والجدول اليومي للعمل، في مشهد متكرر كل عام تقريباً، يجعلنا نتساءل.. كيف لكل واحد منا أن يعيش رمضان بشكله الحقيقي بعيداً عن كل هذه الاستهلاكية؟ لا نختلف على أن للعصر متغيراته وأولوياته التي تفرض نفسها، ولكن هذا لا يعني إفراغ اللحظات القيمة من معناها، فالتجدد لا يعني القطيعة مع القيم، وإنما يفترض به أن يجعلنا أكثر قدرة على توظيف وسائل الحياة الحديثة في أن نجعل هذه القيم أكثر تأثيراً وتوسعاً، وشهر رمضان المبارك فرصة عظيمة تتحقق مقاصدها، لو نظرنا إليها فقط من داخلها، بعيداً عن الاعتياد الموسمي. بعض الدقائق للتفكير قد تفيد ولن تضير، ماذا لو كان تغيير الروتين اليومي لهذا الشهر باعثاً لتغيير بعض طباعنا؟ هل هناك مشكلة لو حددنا بعض الأهداف؟ ماذا لو قررنا استعادة جزء من الوقت الذي نقضيه في وسائل التواصل الاجتماعي، أو جزء من التركيز الذي نستخدمه في التعليق على الأحداث أو الاستجابة الآنية لكل إشعار جديد من أجهزتنا المتصلة بالعالم على مدار الساعة، لماذا لا يكون عيدك الخاص هو أن تستقبل العيد بشخصية منطلقة ذات روح جديدة وأسلوب حياة متجدد الفوائد، بدلاً من استقباله بساعات نوم مؤجلة ووزن زائد؟ هل فكرنا مثلاً في أن رمضان هو فرصة فعلية لتهدئة وتيرة حياتنا المتسارعة طيلة العام؟ وهو الذي يتيح لمعظمنا المساحة الوقتية الأكبر من أجل التأمل وترسيخ علاقتنا بالجانب الروحاني في حياتنا وتخليصها قليلاً من سطوة الماديات المفرطة والمظاهر والركض اللا متناهي في المسارات الدنيوية، وقد يغيب عن الكثير منا أن مصلحة هذه المسارات ذاتها تعتمد على توازن العقل والروح والجسد، وأن في هذا الشهر الكريم متسع كبير لإعادة تحفيز الطاقة واستعادة التوازن. رغم ذلك، يمر رمضان على الكثيرين دون أن يتوقفوا عند مضامينه الحقيقية، مستسلمين تماماً لحالة عالية من الارتجالية في قضاء أيامه ولياليه، في وقتٍ ترسخت فيه عادات جديدة خلال السنوات الماضية حتى بات هناك من يعتقد صلة الرحم الواقعية لم تعد ملزمة تحت ذريعة الانشغال، والتفرغ لعمل الخير لم يعد ممكناً تحت ضغط الوقت، والمفارقة أن هؤلاء أنفسهم هم من يشتكون من عدم إنجازهم لأي شيء طيلة الشهر، ويتساءلون لماذا انتهى رمضان بهذه السرعة؟ بالتأكيد لن يحدث هذا لشخص يزور في كل يوم قريباً له، أو يتصل في كل يوم على صديق قديم مختلف، أو يخصص ساعة يومية في عمل تطوعي، أو في الكثير من الأفكار الأخرى التي كنا نتمنى القيام بها طيلة العام ولم نكن نعتقد بوجود زمن كافٍ لها، أياً كانت تلك الأفكار، فالعبرة ليست في شكل ما نفعله تحديداً وإنما في الأثر الذي يعود علينا به، وأول هذا الأثر هو الشعور ببركة الوقت، وهل هناك بركة أكثر من تلك التي يتضمنها شهر تعادل ليلة واحدة فيه ألف شهر؟