أستمع كثيرا للبرامج الحوارية المباشرة في المحطات الإذاعية، لسببين: أننا نقضي ساعات طويلة في قيادة السيارة، والثاني لاهتمامي بهذه البرامج القادرة على استقطاب جمهور أكثر من أي برامج إذاعية أخرى، تعددت المحطات في السنوات الأخيرة بسبب فتح باب الترخيص، لذا برزت الحاجة لمذيعين وإعلاميين قادرين على صناعة الحبكة الدرامية والإخبارية لتلك البرامج، ولكن ما يخطر في ذهن المستمع الواعي ولأول وهلة هو ضعف هذه البرامج وسطحية محتواها بل وسذاجة مقدميها أحيانا، وقبل كل شيء عدم وجود فلتر ثقافي لما يدخل إليها ويخرج منها. قبل عدة أيام قرأت مذيعة إحدى المحطات المحلية وعلى الهواء مباشرة خبرا عن فنانة أميركية ساقطة تعرضت للسرقة في باريس، اهتمت المذيعة به لدرجة قراءته باللغتين العربية والإنجليزية معا من أجل تأكيد الترجمة الصحيحة، والمدهش أيضا هو أنه بعد انتهائها من الخبر عبرت عن انزعاجها من سطحية ونوعية الخبر متسائلة إلى متى تبث هذه الأخبار السخيفةفي حين هي من تقوم بقراءتها وبثها!! والجمهور أيضا يتساءل إلى متى! ولكن من المسؤول عن تحديد وإجازة الأخبار والمعلومات؟ إن كل مادة إعلامية هي مادة مصنوعة ومختارة بعناية وتمثل وجهة نظر الوسيلة الإعلامية الرئيسية أو الناقلة، ولا تصدقوا أن المادة حيادية أو لا تمثل وجهة نظر أو مبادئ الوسيلة الإعلامية بل تُمثلها وتُعبر عن رأيها، وهناك نظرية مشهورة للتأثير على الجمهور وتمثل أسلوبا دقيقا في اختيار وتصفية المادة الإعلامية وإجازتها وتحديد مدى ملاءمتها للمجتمع والثقافة المحلية وهي "حارس البوابة الإعلامية"، وأهم ما يؤثر في قرارات هذا الحارس هو توجهات وأفكار المالك للوسيلة الإعلامية، طبعا هناك مؤثرات أخرى مثل توجهات ورغبات الجمهور والمعلنين والعادات والتقاليد، ولكنها ربما تكون أقل تأثيراً من سلطة ورغبة المالك، الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن اختفاء حارس البوابة. نتساءل كثيرا ونقف محتارين عندما نقرأ ونسمع ما هو أبشع من خبر الفنانة السخيف وهو سطحية وتفاهة كثير من القضايا المطروحة للنقاش والحوار في البرامج الإذاعية، إضافة لظاهرة الاهتمام بالفضائح والجرائم والإثارة، وأخبار المخدرات والإدمان والشذوذ والتعري عند المشاهير، والبحث عن قصص الاغتصاب والدعارة لمثل هؤلاء، ومتابعة مغامراتهم في مستشفيات النقاهة والمحاكم ونشرها في المواقع والصحف الإخبارية العربية، فلم تبق كرامة ولا احترام للمادة الإعلامية الرصينة، إن العجز عن تقديم تحقيق أو قصة صحفية عميقة أو برنامج إذاعي ومسلسل تلفزيوني ذي قيمة ومهنية عالية تعبر عن رأي المجتمع وتناقش الشأن العام بكل جرأة وشفافية، أنتج بديلا ركيكا مشوها جعل الوسائل الإعلامية تتعلق فقط بالإثارة الصفراء. ومع هذا الكم الهائل من الأخبار والمعلومات التي يبثها مستخدمو الشبكات الاجتماعية في يوتيوب وتويتر وفيسبوك وسنابشات والآن يوناو، يبدو أن حارس البوابة قد تخلص من مسؤوليته وانتحر، ولم يعد هناك ذلك العقل المهني القادر على تصفية وانتقاء المادة الإعلامية وتحديد الصالح للنشر من عدمه. وعودة للوسائل الإعلامية المنظمة، برأيي يبقى الممول أو المالك مسؤولا عن إنعاش الحارس والاهتمام به والتركيز على الإعداد والتحرير أكثر من الإخراج والتقديم، وعلى عاتقه تقع مسوؤلية صناعة الوعي وليس الخوف منه ومن ثم تغييبه، فنحن في مرحلة سياسية وثقافية واقتصادية مختلفة وحرجة، فلا بد من سياسة إعلامية واعية وتنويرية تقود المرحلة وتصنع وترتقي بالوعي بكل مسؤولية ووطنية، وإلا فإن البديل عند غياب حارس البوابة الإعلامية، هو المزيد من الجهل وتغييب العقل وتصغير القدوات وتسطيح الأفكار والطموح.