عندما كنت طفلا صغيرا لم أكن أعرف ما الأدب! لم أفهم الأدب ولكني أحبه كثيرا منذ الصغر دون أن تسألني كيف كان ذلك! حينما كنت في رمضان صائما مع أهلي وفي الحقيقة كنت نصف صائم، وأتمنى أن يسامحني أهلي كما أني سامحتهم عندما كنت أخدمهم، فآتي بالأغراض من الحانوت في كل عصر قبيل الغروب! أتابع الفوازير الرمضانية، ثم مع ارتفاع أصوات المؤذنين أصدح بالذكر مع صوت والدي الرخيم ، وفي عينيّ تلمع البراءة مع الإيمان الصغير وكذبتي الكبيرة التي صدقتها أنني "صائم"! أركض إلى القناة الأولى في التلفاز فأضعها على شيخي الراحل علي الطنطاوي ولم أفهم أحيانا ما يقول هذا الشيخ الكبير ولكني أحبه كما أحب ليلة العيد السعيد! كبرت فأصبح حجمي وموهبتي في الأدب تكبر، فتكسر إناء الواقع كالزجاج المتطاير! ثم تدفقت مواهبي مع الأرض والصحف؛ أحببت الأدب وعشقت الشعر الشعبي وحفظت مئات الأبيات ثم ولجت في بوابة الشعر الفصيح وأغلقت الأبواب كلها، وقلت لن أخرج من هذه القلعة الثمينة والجميلة، طفقت أفتش في هذا التراث وأقف عند صندوق القصيدة التليدة العصماء وأجري مع الشاعر في خياله الذي مات وخيالي الحي الذي مازالَ موصولا بخياله! وجدت في هذه القلعة كتبا رائعة للشيخ علي الطنطاوي، فعادت لي ذكرياتي والأيام البسيطة في رمضان حينما كنت لا أمل ولا أتبرم أمام شاشة التلفاز، يا الله! أحببت هذا الشيخ من كل قلبي أكثر من محبة كبار السن في قريتي الصغيرة النائية! أحببتك ياشيخ وأحببت قاسيون الذي طالما تحدثت عنه ، ليتني زرت دمشق لكي أرى هذه الديار التي طالما عشقتها وتحدثت عنها من كل قلب! وأقرأ الآن ذكرياتك الجميلة وأقول الحمد لله أنك أوصدت ملفاتك ولم تر ما الذي يحصل فيها.. الآن . الزقاق الضيقة والعربات المترعة بالفواكه والخضروات دمرتها الصواريخ والدبابات، انقلب ابن حافظ الأسد إلى فأر كاسر! لا أعلم هل بيتك تحطم أم ذكرياتك أم ديارك صارت تحت أدراج الرياح، لقد كان وطنك وحارتك وقريتك وشارعك الذي تجول فيه لقد كانوا لك من أوفى الأوفياء ورحلوا بعدك! ولسان حالهم يقول ليس بعدك حياة! ليس بعدك حياة! شيخي تمنيت أني رأيتك في مكة حينما زرتها، ليتني جلست معك جلسة على الرصيف كما كنت تجلس في الحياة.. بتواضع الكبار! لقد رحلت وأضفت إليّ شيئا كثيرا لم تسمع عنه أو تره أو تصدقه! أيها الشيخ الراحل سلام على روحك الطيبة! لقد رفعت للأدب رايته ودافعت عنه، ونحن الصغار ليس لنا إلا ما استشهدت به عنا، لقد كبرت يا شيخي الآن ثم أتى رمضان تلو رمضان وأتيت أنا إلى القنوات أفتش فيها عن روحك وعن روحي القديمة التي طالما سامرت فيها أدبك وبساطتك وذكريات الطفولة الجميلة، ولكن قد تبدل الحال، لقد رحلت يا شيخي ورحلت الديار التي تغنيت فيها وكبرت أنا وما زالت حلقاتك هي حلقة الوصل بيننا، عزائي هو أن نلتقي هناك في جنات النعيم! سلام عليك يا شيخ سلام على دمشق سلام على الديار العربية المسلمة! رابط الخبر بصحيفة الوئام: ليتني زرتها قبل الموت!