بكت.. صرخت.. استغاثت… ولكن كانت يد الإهمال أقوى من دموع وصرخات أم شابة، شاء القدر أن ترى زوجها الشاب في (العقد الثالث) وطفلها ابن الخامسة، يموتان أمام عينيها اختناقا؛ في خزان للصرف الصحي بأشهر شوارع جدة بل المملكة، وهو شارع الأمير محمد بن عبد العزيز والمعروف باسم «التحلية». صباح أمس الخميس، وفيما كانت عقارب الساعة تشير إلى الثانية فجرا، وقعت المأساة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، ولو يعلم الأب (علي منشو) أنه سيفقد وابنه محمد حياتهما، ويودع زوجته إلى الأبد، ما خرجا للنزهة والترفيه آخر أيام العيد، وما اقترب بأهله من ذلك المركز التجاري الشهير، الذي تحول خزان للصرف الصحي بالقرب منه، إلى مقبرة للبراءة ومصيدة للموت. فبينما كان الأب (علي) وزوجته ينظران إلى صغيرهما، يرقص فرحا بدخول الملاهي وقضاء ليلة جميلة، تحت أضواء معالم هذا الشارع، الصاخب دائما، بمحلاته العالمية، ومطاعمه الفاخرة، وسياراته الفارهة، وجلساته المخملية، تعثرت قدم محمد في عتبة متآكلة (غطاء متهالك) لا يزيد قطرها على 90 سم، تعلو فوهة واسعة لخزان دائري مفتوح (بلاعة مجاري) بعمق ثلاثة أمتار، واتساع 6 أمتار، وفي لمح البصر سقط الصغير في المياه الآسنة، وخلفه ألقى والده بنفسه في محاولة لإنقاذه، في مشهد رهيب، لن تنساه عيون الفضوليين، والآخرون الذين ارتجفت قلوبهم، وهم يرون الرجل وابنه يودعان الحياة، بسبب تأخر الأجهزة المعنية – كالعادة – في الوصول إلى موقع الكارثة. وفي الوقت الذي كانت تستغيث الزوجة أم محمد… النجدة… النجدة، كان الصغير ووالده يصارعان الموت مع المجاري والرائحة القاتلة، و حاول العريف ياسر الغامدي من الدوريات الأمنية (متطوعا ومخاطرا بحياته) إنقاذ الأب والابن، فبعد أن خرج بهما من قاع الخزان، واقترب من سطح الشارع، سقط الصغير من يد والده مجددا، لتبكي عيون الرجال قبل النساء والأطفال. وبعد دقائق سطر خلالها القدر كلمته، وكما يقولون «بعد فوات الأوان وخراب مالطة»، تحركت فرقتا إنقاذ من شمال ووسط جدة، بالإضافة إلى فرقتي إنقاذ مائي وإسناد، كما حضر الهلال الأحمر، وكثر الله خيرهم ما قصروا جميعا، شمروا عن سواعدهم، وانتشلوا الأب علي وطفله محمد، وقد فارقا الحياة، وحملوا العريف الغامدي إلى المستشفى متأثرا بسموم ومخلفات المجاري المميتة، وأجرت الشرطة تحقيقا موسعا، ويستمر السؤال.. من المسؤول.؟ ومن يحاسب عن هذا الإهمال الذي اغتال براءة محمد، وقتل والده، وحرق قلب أم وزوجة شابة، يعلم الله وحده، كيف تحملت المشهد المأساوي، وكيف ستعيش بعد فراق الزوج والابن معا؟! من الجاني ولمن تتجه أصابع الاتهام.؟ لأمانة جدة والبلدية الفرعية؟ أم لصاحب المركز التجاري أو المسؤول عنه، أم لرجال الإنقاذ والدفاع المدني لتأخر وصولهم إلى المصيدة؟ المواطنون يطالبون بتقديم المسؤول والمتسبب في هذه المأساة إلى محاكمة عاجلة، حتى لا تتكرر في هذا الشارع، ولا في أي شارع آخر بالمملكة. ومع المواطنين الحق كل الحق، خصوصا وأن الحادث لم يكن الأول من نوعه، ويبدو أنه لن يكون الأخير في شارع التحلية الأنيق، الذي يسجل المتر فيه أعلى سعر في العالم، ومع ذلك يفتقد إلى مراكز خدمات الإنقاذ السريع، ولا تتوفر في مولاته ومحلاته الكبيرة، الكوادر البشرية والأجهزة اللازمة للتعامل والتدخل الفوري لحين وصول الدفاع المدني. وقد تتكرر المأساة غدا أو بعد غد، مثلما تتكرر مآسي الآبار الارتوازية في أرجاء البلاد، طالما بقي التعامل بهذا البطء في التحرك، وطالما بقي الاستهتار وترك غرف المجاري مفتوحة، وطالما بقي أيضا الضمير نائما في أدراج بعض المسؤولين، الذين يسكن بعضهم وللأسف الشديد في هذا الشارع أو بالقرب منه، ويصمتون على هذه المصائد، التي تفتح أفواهها صباحا ومساء؛ لاستقبال مزيد من الضحايا، رجالا ونساء وأطفالا. إن ما حدث للأب علي منشو وابنه محمد لا ينبغي أن يمر مرور الكرام، حتى لا تتوه المسؤولية، ويتم تحميلها في النهاية للقدر، أو لعامل المجاري البسيط أو لحارس المركز التجاري، أو لغيرهما من البسطاء، الذين غالبا ما يذهبون كبش فداء لخطأ المتسبب الحقيقي في المأساة. إنني أدعو المهندس هاني أبو رأس أمين جدة، إلى حصر كل مصائد الموت (غرف المجاري ) والعمل فورا على إحكام غلقها ومحاسبة أي موظف أو مسؤول يثبت تراخيه في المتابعة، وأناشد صاحب السمو الملكي الأمير مشعل بن عبد الله أمير منطقة مكةالمكرمة تشكيل لجنة عاجلة للوقوف على مدى التزام المراكز والمحلات الحالية الكبرى بوسائل السلامة والأمان في محيط المركز وبالقرب من مداخله ومخارجه، ولتشديد العقوبة على من يتسبب في اغتيال براءة طفل أو قتل شاب، أو إزهاق روح أب كان يحلم فقط بقضاء يوم جميل مع ابنه وزوجته. أما رجال الدفاع المدني والإنقاذ المائي والإسنادي والإسعافي وغيرها من المسميات.. فلا لوم ولا عتاب فأمامكم مشوار طويل حتى تتحركوا قبل خروج روح المستغيث بكم.. ورحم الله عليا وصغيره محمدا وعسى رب الكعبة أن يلهم الزوجة الأم والأسرة الصبر والسلوان. فهد بن سعود الحارثي [email protected] رابط الخبر بصحيفة الوئام: «التحلية».. مقبرة للبراءة.. مصيدة للموت