رأيت الأيام تأكل من رغيف السنين فترتع الأعوام في رياض أعمارنا وتنهل من ماء شبابنا ! فتنتهي هذه السنة -كعادتها- بالأحلام والأهداف والأفراح والأتراح والجراح ، فيبقى على رأس السنة هذا الذي لاينتهي إلا بعد مكابدة وكمد وعراك مع نعمة النسيان_عندي الآن نعمة وربما عند غيري نقمة_! لقد علمتم مارحل ، فهل تعلمون ما الذي بقي ؟! …إنه الوداع يا صافي القلب فهل أنت مثلي تشكو مرارته ؟! ودع هريرةَ إن الركب مرتحلٌُ فهل تطيقُ وداعاً أيها الرجلُ بالنسبة لي…لا والله لا أطيق هذا القلب الكبير لا يكاد يتشجع فيكفكف دموعه !عجبي لاينتهي ! أجده سداً أمام سيل الجائحة ،وفولاذاً ضد رصاص النوائب كأنه جبل أحد ! ثم يضعف ويتضاءل رويداً رويداً أمام شبح الوداع ، فلا أستطيع أن أمسكه إذا ولى مدبراً ولم يُعقِبْ ! فالأنامل ترتجف ! والعرق يرشح فيخضب الجبين ويغسله ، والأقدام تهتز كأنها جان ؟! كل هذا لأجل وداع قلب ؟! اللهم ألهمنا الصبر… **كل عام أودع صديقا جاور ربه ، وكل عام يفرق بيننا أنا وأعز الأصحاب أمورٌ ليست بالعظيمة فخلقت بيننا فجوةً صغيرة نستطيع ردمها ! ولكن أبى الوداع إلا أن يكون الحل الوحيد ! تذكرت الشاعر ابن فطيس (بالشعبي) إذْ يقول : "كل عام يطيح تسعة…ويصفا لي وحيد ". **زملائي في العمل لقد اقترب موعد الوداع ،وطلابي الذين أقف أمامهم كل صباح سيفقدون صوتي وصخبي ونصحي وسأفقد تساؤلهم من عذب حديثهم الدائم عما نشر لي في الصحيفة من ليلة البارحة ، وسأفقد ملامح براءتهم وطفولتهم التي أفعمت على وجوههم الغضة من معين قلوبهم الطاهرة . **مازلت أفكر في هذه الحياة وبأبنائها ، لماذا تطوي شراعها ثم ترتجف رجفة المحموم فتفرق الأحباب في آفاق الأوطان وتحت أطباق الثرى ؟! إنها حكمة نالها من نالها وتعلم من عرف نهايتها إن دوام الحال من المحال . { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } فلا أحد قد عرف الدنيا بمثل معرفة سيد الخلق إذ يقول : أتاني جبريل ، فقال : يا محمد عش ما شئت فإنك ميت ، وأحبب ما شئت ، فإنك مفارقه ..الحديث فيا أيها الراحلون قد خيل إلي بأن إيليا أبي الماضي بعث من مرقده فوضع يده على كتفي وأنشد لي مواسياً : أزفّ الرّحيل وحان أن نتفرّقا ** فإلى اللّقا يا صاحبّي إلى اللّقا إن تبكيا فلقد بكيت من الأسى**حتى لكدت بأدمعي أن أغرقا وتسعّرت عند الوداع أضالعي** نارا خشيت بحرّها أن أحرقا لو لم نعلّل باللقاء نفوسنا**كادت مع العبرات أن تتدّفقا يا صاحبي تصبّرا فلربّما**عدنا وعاد الشّمل أبهى رونقا إن كانت الأيّام لم ترفق بنا** فمن النّهى بنفوسنا أن نرفقا ثم عاد شاعر لبنان لقبره وبقيت قصيدته تدوي دوياً هائلاً في سماءِ روحي ! _______________________ * ومضة : يارب أنت الباقي يوم يرحل الجميع يوم أن تطوي السنين والأصحاب أوراقها ، يارب إن عندك المقام ، هناك الحياة الأبدية ، هناك الحياة السرمدية ، فيا أيها الرحيل المؤقت والأبدي كفاك جوراً أيها الرحيل ، لقد تذكرنا النعيم المقيم فقاومنا صلابتك وهجومك ومرارتك ، فهَّونَ ذلك النعيم كل وداعٍ..في هذه الحياة . أخي : أخي إن نَمُتَ نلقْ أحبابنا ** فروضاتُ ربي أُعدت لنا وأطيارُها رفرفت حولنا ** فطوبى لنا في دِيار الخلود رابط الخبر بصحيفة الوئام: كل عامٍ نودع أشلاءنا !