البديع.. هذه القرية ذات الامتداد التاريخي عبر مئات السنين، تقبع بهدوئها شمال مركز العيص التابع لمحافظة ينبع، اختارها بعض رجال الأعمال لتكون مركزا يعنى بمعروضاتهم من الحرف التراثية، ويقام بها العديد من الفعاليات التي تعنى بالفلكلور الشعبي، وفعاليات سباقات الهجن، وعرض الصقور النادرة. رغم هذا.. يعتبر أهالي هذه القرية أنهم حرموا على مدى عقود من مشاريع التنمية التي شهدتها مناطق المملكة بصفة عامة، ومن أهم هذه الخدمات التي تفتقر لها الطرق المعبدة، ولعل الطريق الذي يربطها بمركز العيص خير شاهد على ذلك، لرداءته، وخطورته على أهالي تلك القرية، وقد ذهب ضحيته نحو 30 شخصا من أبناء القرية والقرى المجاورة خلال السنتين الماضيتين، حيث ما زال حزنها على الشاب العشريني ناير الجهني متدفقا نتيجة تعرضه لحادث مروري على هذا الطريق ألزمه الكرسي المتحرك بعد إصابته بشلل رباعي. الاقتراب من الموت ربما لا تتفاجأ حين تسير في طرقات هذه القرية الترابية وتجد مئات الناس يسيرون معك يحملون همّ قوتهم اليومي، وربما لا تتفاجأ حين تعرف بأن عدد سكان هذه القرية يقارب ال3 آلاف نسمة، لكنك ستصدم حتما حينما تعرف بأن هذه القرية لا يوجد بها مركز صحي يهتم بهذه الآلاف من الناس، أسوة بغيرها من القرى المجاورة، إضافة لانعدام وجود مركز للهلال الأحمر، حيث يلجأ أهالي القرية لمراجعة مركز صحي العيص، يسيرون إليه وهم يحملون على ظهورهم مشقة الطريق المتهالك الذي يبلغ طوله 50 كلم تقريبا، إضافة إلى همّ المرض الذي يدعوهم للذهاب إلى المركز. وحين تسمع ذلك المعمّر الذي يبلغ من العمر نحو 100 عام، تدرك حجم المأساة التي بين يديك، فالعم عوض الجهني يذكر معاناته مع غياب المرافق الصحية في القرية بقوله "أذهب بشكل متكرر إلى المراكز الصحية خارج القرية نظرا لكبر سني، وثقل الأمراض على جسدي، فهل أستحق بعد كل هذه السنين أن أقطع المسافات لأبحث عن مكان أتعالج فيه؟" ويطالب "من حقنا أن يكون لنا مركز صحي مثل باقي القرى المجاورة، فمن هم مثلي كثيرون في هذه القرية، وهناك نساء كثيرات يعانين من نفس معاناتي، فيصبح الواحد منا يحمل همّين: مرضه ومسافة الطريق". وعندما تنظر إلى فضي المرواني تدرك حجم المعاناة أيضا، فهو رجل مصاب بسمنة مفرطة، تسببت له في الكثير من الأمراض فيذكر حيال هذا الأمر "أنا رجل أعاني من السمنة الزائدة، وأمراض عدة منها الضغط والسكري والربو، وعندما أحتاج للأوكسجين استنجد بالجيران، ليذهبوا لمكان اتصال بأعلى الجبل لإبلاغ الهلال الأحمر، ليقوم بنقلي لأخذ جرعة أوكسجين، إنها معاناة حقيقية تحدث لي بشكل شبه منتظم". وستشعر بالحسرة حينما تسمع قصة ابن المواطن مسعد الجهني الذي أصيب بارتفاع في درجة حرارته، أثناء غياب أبيه في المنزل، لتقوم الأم بطلب النجدة من مدير المدرسة بالقرية، فيقوم بنقله إلى مستشفى مركز العيص، إلا أن وصوله كان متأخرا، مما أخضعه لفترة علاج طويلة، لكونه كاد أن يقضي نحبه، وما زال الابن يعاني من أعراض مرضه هذا حتى الآن، فيما يقول الجهني "إن شقيقي مصاب بمرض الربو المزمن، وفي أكثر من مرة تنتابه حالة الربو هذه، فننقله إلى المستشفى، لكننا لا نصل إلا بعد أن يكون قد فقد وعيه، فسوء الطريق ومسافته، هما السبب في ذلك". رغم تماسك المواطن ظويهر الجهني وهو يقول قصته إلا أن هذه القصة كانت موجعة حتما حيث قال "كانت زوجتي حاملا، وذات يوم مرّت بأزمة صحية، فحملتها إلى مستشفى العيص أريد اللحاق بها وبالجنين، كنت أسير بأقصى ما يمكن لأنقذهما، لكنني عندما وصلت إلى المستشفى كانت زوجتي قد فقدت الجنين، والحمدلله أنني لم أفقدها هي الأخرى". 40 كلم.. أقرب مركز صحي وفي تصريح لمدير إدارة العلاقات العامة والإعلام في صحة المدينةالمنورة عبدالرزاق حافظ حول هذه الحكايات ذكر بأن قرية البديع تقع في القطاع الصحي التابع لمركز العيص ولا تبعد كثيرا عن مركز الرعاية الصحية الأولية في قرية المربع، مؤكدا أن هنالك مستشفى عاما في مركز العيص لا يبعد عن القرية سوى 40 كلم. واعترف حافظ بأن أهالي هذه القرية سبق أن تقدموا بعدة طلبات لاستحداث مركز صحي في قريتهم، وتم الرد عليهم عن طريق مدير القطاع الصحي في مركز العيص بذلك، فهنالك مخطط إقليمي لمنطقة المدينة الصحية، فالقرية ليست قرية خدمة، حيث تتم خدمة القرى حسب معايير محددة من حيث التعداد السكاني. التعليم حينما يتوقف لا يمكن أن نستوعب أن تكون التنمية سببا في تسرب الكثير من الناس من التعليم، وتوقفهم عند مرحلة معينة، لكن هذا ما حصل، فعندما تحدث شيخ قرية البديع الشيخ جارالله سعد الجهني عن أحوال القرية أدركنا حجم المأساة، فقد طالب بتحويل القرية إلى مركز، لكونها تشتهر بسوقها الشعبي الأسبوعي، ومهرجاناتها التراثية السنوية، وغناها بالموروث الشعبي، وكثافتها السكانية، ويؤكد بمرارة بأن القرية تفتقر لاكتمال حلقتها التعليمية حيث لا توجد بها إلا مدرستان للتعليم الابتدائي، والمتوسط للبنين والبنات، فيما لا توجد مدرسة للتعليم الثانوي سواء للبنين أو للبنات، مما يعني أن الأهالي سيواجهون صعوبة بالغة في نقل أبنائهم للتعليم الثانوي في القرى المجاورة، وربما يجبر العديد من الطلاب والطالبات على ترك الدراسة نتيجة الظروف المعيشية الصعبة بالقرية، ويعلق الجهني "سبق أن طالبنا ولأكثر من مرة في تحسين الخدمات للمواطن في كافة المجالات التعليمية، والصحية والخدمية، لكن لم تقابل مطالبنا بالقبول، ولا أدري ما سبب ذلك". بلا مياه عندما تتأمل وجوه الناس، والطرقات، والبيوت الطينية، والتراب، ستكتشف حتما أن هذه القرية تعاني من نقص حاد في مياه الشرب، وعندما تعرف بأنه لم يتم حفر أي آبار للسقيا، أو مساعدة الأهالي في حفر آبارهم القديمة التي جفت منذ أمد بعيد ستشعر بأنك أمام قضية مهمة، وفي هذا الصدد يذكر المواطن محمد الجهني "استجاب فرع وزارة المياه لشكوى أهالي هذه القرية العطشى، حيث تم تخصيص نصف وايت فقط من الماء لكل منزل في الشهر الواحد، وهذه الاستجابة قاصرة ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكفي نصف وايت أسرة في منزل واحد ويضيف "هذه المياه غير صالحة للاستخدام الآدمي لملوحتها الزائدة، فينبغي أن تكون قرية البديع ضمن القرى التي يشملها مشروع السقيا". من جهته نفى مدير مشاريع المياه بمنطقة المدينةالمنورة المهندس ممدوح الردادي أن تكون عملية السقيا لم تصل إلى القرى التابعة لمركز العيص ومنها قرية البديع، وأكد بقوله "لا يمكن ذلك، فنحن نعرف أنه يصل وايت كامل في كل شهر، إلى كل مواطن في القرية، وقد أعطينا كافة أهالي قرية البدع كوبونات خاصة بهذه الصهاريج التي خصصت للسقيا"، وأضاف الردادي "إن مشروع التحلية سوف يصل إلى هذه القرى بصفة عامة ومنها قرية البديع". بين الضمان والبنوك من القاسي حتما أن تتقاضى مبلغا ما، لكنك لا تجد المكان الذي تصرف منه مبلغك هذا، هذا ما يؤكده المواطن عبدالرحمن راشد الذي أبدى استياءه من خدمات بعض البنوك بمركز العيص، فهي لا توفر مكائن للصرف الآلي ويقول "نعاني كثيرا في الذهاب من القرية إلى مركز العيص، ولكننا حينما نتحمل مشقة الذهاب نتفاجأ بعدم توفر المال في ماكينة الصراف الوحيدة، أو تعرضها للعطل" ويضيف "ولأن مركز العيص يبعد كثيرا عن القرية تضطر بعض الأرامل والنساء للاستعانة بالآخرين، لأنهن لا يستطعن مزاحمة الرجال، وقد حرمهن هذا من بعض مستحقاتهن بسبب سلب أموالهن والتلاعب بهن، فماكينة الصرف الآلي أصبحت ضرورة لأهالي القرية لأنهم يذهبون في الصباح الباكر، ولا يحصلون على مستحقاتهم إلا بعد العصر نتيجة الازدحام، والأعطال المتكررة، وعدم توفر الأموال فيها"، ويشارك راشد في هذا الرأي المواطن محمد حماد الذي تعرض لسرقة أثناء صرف أمواله نتيجة الازدحام العشوائي، وعدم وجود أي مراقبة، مطالبين وضع حد لهذه المعاناة التي تتكرر شهريا. وأوضح مصدر في مكتب الضمان الاجتماعي بمحافظة ينبع أنه تم الرفع للبنوك بهذه المطالبات، ومحاولة استحداث مكائن للصرف الآلي بالقرى النائية التابعة لمركز العيص، وبين أنه سوف تتم إعادة الطلب للحد من معاناة الأهالي في صرف الضمان الاجتماعي.