فيما يبدو أن المتاجرة بالدين تجارة رائجة ورابحة في كل زمان ومكان! ونعني "بالمتاجرة بالدين" استخدام الدين مطية لنيل المكاسب المادية بكل طريقة "ممكنة"، أو الاختباء تحت عباءة الدين للوصول إلى مصالح دنيوية! كلنا نذكر قُبيل سنوات عندما جاءت الأسهم المالية بأرباحها الكبيرة وجاءت بخيرها وشرها، بحلالها وحرامها، وتبيِّن – آنذاك – التدين الحقيقي من التدين المغشوش، ورأينا بعض من كانوا يدعون التدين ويتورعون عن بعض المباحات ويصعدون بالصغائر إلى مرتبة الكبائر ويشعلون المعارك الجانبية بسبب فرعيات مُختلف في حكمها ويجعلون من المندوب واجباً ومن المكروه محرماً، بل إن بعضهم يسد أُذنيه تورعاً عن سماع موسيقى "مقدمة الأخبار"! وظهرت في تلك الفترة شركات أسهم وصناديق استثمارية تحمل مسميات إسلامية ليكثر رواجها وزبائنها في مجتمعنا المتدين بالفطرة. ما أحب أن أؤكد عليه أن "المتاجرة بالدين" تدفع بصاحبها إلى التشدد والغلو في فرعيات مختلف في حكمها ويتساهل في أمر يُعد محاربة لله ورسوله كالربا مثلاً! فيشدد في الشكل ويتساهل في المضمون، لأن الشكل يُبصره الناس و"يغتر" البعض به، أما السرائر فلا يعلمها إلا الله عز وجل. ومن أمثلة "المتاجرة بالدين" أيضاً ما انتشر مؤخراً من أماكن وعيادات يعمل فيها أناس يزعمون أنهم متخصصون في العلاج بالقرآن.. يذهب إليهم الناس كي يعالجوهم بالقرآن الكريم مقابل مبالغ مالية كبيرة، وياليت هؤلاء يكتفون بالرقى الشرعية والتعاويذ والأذكار والأدعية المشروعة، بل إنهم يدعون أنهم يعالجون بالقرآن جميع الأمراض النفسية والعضوية، كما يقول بعضهم وكما هو مكتوب على اللوحات الجدارية المعلقة حول مداخل تلك العيادات بأن "القرآن شفاء لكل الأمراض"، وهنالك آيات قرآنية تلي اللوحة السابقة مثل قوله تعالى "قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء" الآية..، وقوله تعالى: "وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين" الآية.. وللرد على ما سبق سوف أورد النقاط التالية: في البدء أؤكد أنني أؤمن بأن القرآن هدى وشفاء، ولكن السؤال هنا: ما معنى الشفاء الذي ورد في الآيتين السابقتين؟ هل معناه الشفاء العضوي؟ بمعنى أن الإنسان إذا أوجعه بطنه أو أوجعته أسنانه أو شعر بألم في جسده فما عليه إلا الذهاب إلى عيادة القرآن ليُشفى أم إن عليه أن يذهب إلى الطبيب المختص بالمرض الذي يعاني منه؟ في رأيي أن عليه الذهاب إلى الطبيب المختص، لأن القرآن الكريم علاج وشفاء للأمراض المعنوية مثل الشك والحيرة وما يصحبهما من هم وحزن وخوف وقلق وليس علاجاً للأمراض العضوية، ولذلك كان من أدعية النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "اللهم اجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي"، وكل هذه الأمور المدعو لها أمور معنوية لا مادية، تتعلق بالقلب والصدر، لا بالجسد والأعضاء. ثم هنالك آية هامة يتغاضى عنها أصحاب عيادات العلاج بالقرآن توضح معنى الشفاء بالقرآن وتقيد الشفاء الذي ورد في الآيتين السابقتين اللتين استشهدوا بهما، قال تعالى: "يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين"، فالآية تبين أن القرآن شفاء لما في الصدور وليس لما في الأجساد من أدواء. كما إن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تبين أنه شرع الطب والدواء كما قال: "إنما الشفاء في ثلاث: في شربة عسل أو شرطة محجم أو لذعة بنار" وكل هذه أدوية للأمراض العضوية ولم يذكر منها قراءة القرآن. ولو أن المسلمين الأوائل اقتصروا على العلاج بالقرآن لما شاع الطب بينهم ولما تقدم الطب تقدماً هائلاً في الحضارة الإسلامية ولما كان المسلمون أئمة العالم وأساتذته في الطب أمثال الرازي وابن سينا وابن النفيس، رحمهم الله. أمر طيب أن تتضافر الأدوية الروحية والعضوية، بمعنى أن الإنسان المريض يُرقي نفسه ويقرأ القرآن الكريم وفي نفس الوقت يتلمس الأسباب المادية لعلاجه من المرض الذي يعاني منه ولا داعي للذهاب إلى تلك العيادات! لم يؤثر عن أحد الصحابة رضي الله عنهم أنه فتح بيته وقال أنا متخصص في العلاج بالقرآن أو في استخراج الجن من أجساد الناس، حتى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو سيد أطباء الروح لم يفعل هذا وإنما شرع الطب وشرع التداوي بما يعهده الناس في زمانهم ويعرفونه.