سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
برزخ حوران "خالد" أيقونة قصة نزوح السوريين إلى الأردن أفواج الفارين من إرهاب الأسد يبدؤون مع مغيب الشمس عبور الحدود إلى الحياة فوق حقول الألغام وتحت مرمى القناصة
أفق أخضر يمتد أمام عينيك على امتداد سهل حوران، الذي يجمع الحدود السورية والأردنية على مسافة 375 كيلومتراً. مروج خضر وأزهار برية تتمايل مع نسمات الهواء، مشهد بديع لا يلبث أن يتلاشى حين تبدأ الشمس بالمغيب معلنة بدء مسلسل النزوح اليومي لآلاف السوريين الهاربين من الموت. ربما تحتفظ تلك المروج بقصص النازحين، الذين تجاوز عددهم ال 100 ألف، وفق أغلب الروايات، وربما اصطبغت تلك المروج بدماء المصابين الباحثين عن العلاج.. أطفال ونساء وشيوخ وشباب، بعضهم يسير فاقدا أحد أعضائه، وبعضهم محمول على الأكتاف، وأكثرهم بجراح أكثر عمقاً بعد أن فقدوا أقرباءهم. رحلة البحث عن الحياة مع مغيب الشمس كل يوم، تبدأ أفواج النازحين بالسير خلسة عبر الحدود، حيث تصبح الحياة رهينة رصاصة قناص يقف على أبراج حراسة الحدود السورية، أو لغم ينفجر بخطوة عابرة. يلخص الشاب خالد الحمود وهو واحد من عشرات النازحين السوريين، في قصة نزوحه التي انتهت بعبوره الحدود الأردنية قبل أيام؛ حال كل النازحين. ويحكي تجربة النزوح من حمص، قائلاً: "أمرني والدي باللحاق بوالدتي وإخوتي الصغار إلى مدينة عمّان.. انطلقت من حمص عصرا، ولم يمض على مسيري سوى دقائق حتى أمطرني أحد الشبيحة بوابل من الرصاص اخترق الزجاج الخلفي لسيارتي، ودمّر خلفيتها بالكامل". نجا خالد من الموت بأعجوبة، فواصل المسير ببقايا روحه التالفة كسيارته، يلتهم الطريق حتى وصل إلى مدينة دمشق حيث ركن سيارته وركب مع شاب من مدينة درعا تواصل معه سابقا، ليتجها إلى مدينة درعا. كانت تكشر في وجهيهما عشرات الحواجز ونقاط التفتيش، فيهربان منها عبر طرق بديلة، قبل أن يصلا إلى الحاجز الأخير الذي لا مناص عنه.. يعلّق خالد على ذلك الموقف، فيقول: "حين أخبرني رفيقي بأن أمامنا حاجزاً لا بد من عبوره، اشتريت عدة قطع من البيتزا، وعند وصولنا إلى الحاجز فتحت زجاج السيارة فتقدّم أحدهم يسألنا عن وجهتنا، وقبل أن أجيبه حلفت عليه ألا أجيب قبل أن يقبل مني قطعة بيتزا ليأكلها، أخذها فرحا بذلك، فقضم منها قضمة، ثم قال مبتسما "تسهّلوا". تجاوزناه ونحن ندرك بأننا قد نجونا من الموت بأعجوبة". عندما وصل خالد ورفيقه إلى مدينة درعا ليلا، بات خالد في بيت أحد أفراد الجيش الحر، بانتظار الليلة المقبلة ورحلة اجتياز الحدود المصيرية. الظلام يستر الأرواح لا يمكن أن يستر روحك من الموت في هذه الرحلة سوى الظلام، وهذا ما آمن به خالد في رحلته إلى الحياة حين قال "لا تستطيع أن تقطع الحدود إلا ليلا، بلا أنوار، وبلا أنفاس، حتى القمر حين يكتمل لا يمكن لأحد أن يتحرك، لأنه سيكون عرضة للموت برصاصات قناصة الجيش السوري المتمركزين على أبراج المراقبة". سار خالد مع مجموعة من 17 شخصا، خمسة شباب بينهم شاب جريح يحملونه على نقّالة، وخمس نساء، وثلاثة أطفال، وأربعة شيوخ، بعد أن نقلهم أفراد من الجيش الحر إلى منطقة قريبة من الحدود، وأخبروهم بالاتجاه الصحيح وأن المسافة نحو 3 كيلومترات ويجب اجتيازها بسرعة وحذر.. قطعوا الليل يسيرون بين الوهاد والتلال، لا يرون شيئا، إنما تسمع همسهم وصراخ بعض الأطفال الذين تسارع أمهاتهم إلى كتم أنفاسهم لكي لا يكونوا وجبة دسمة في شدق إحدى بنادق قناصة الجيش السوري. ويقول خالد: "بعد قرابة الساعة بدأ الموت يقترب، حين سمعنا صوت الرصاص ينهال علينا، فانبطحنا جميعا، وبقي الرصاص يتطاير حولنا لأكثر من عشر دقائق، بقيتُ طوال هذه الدقائق أنتظر فقط أن تستقر الرصاصة في رأسي لأموت". كان يقول ذلك وهو يدرك بأنه وُلد من جديد في عراء لا يرى فيه سوى الموت والظلام. وبعد أن انقطع دوي الرصاص عاودوا المسير مرة أخرى. شيوخ ونساء لا يستطيعون المسير، وأطفال ترتفع أصواتهم وهم لا يدركون حجم هذا الخطأ الفظيع، وأربعة شباب يحملون بين أيديهم جريحا يشعر بأنه أقربهم إلى الموت. بكاء بين جيشين هل تعرفون معنى أن يكون للجيوش وجوه أخرى؟ هذا ما يفسره خالد وهو يحكي قصة النزوح ويقول "بعد نحو ساعتين من المسير والتوقف لأخذ الأنفاس وتبادل حمل الجريح، شاهدنا سيارة ومجموعة من الرجال تتجه إلينا، تأكدنا حينها بأننا على موعد مع الموت، فانبطحنا على الأرض وبدأ بعضنا بالتشهد والدعاء، كانت النساء يضعن أيديهن على أفواه أطفالهن لإسكاتهم.. وكانت السيارة ومرافقوها تتجه نحونا رغم كل ذلك، وحين اقتربت أكثر تأكدنا بأنهم من الجيش". يواصل خالد حكايته والأسى يرتسم على ملامحه: "بكينا جميعاً حين اكتشفنا بأنه جيش آخر، وليس جيش بلادنا الذي نرهبه، ونختبئ عنه حتى لا نموت، كانت السيارة والرجال من الجيش الأردني، الذي أصبحنا نهرب إليه فيحمينا ويستقبلنا كإخوة". قطعت أم منذر وهي إحدى النازحات، حديث خالد وهي ترفع يديها بالدعاء للجيش الأردني، وتقول "الله يحفظ لهم شبابهم، فعلا هم الرجال، وليسوا أمثال الذين قتلوا آباءنا وأطفالنا، وهتكوا أعراضنا، ونحن من كنا نعتقد بأنهم لم يوجدوا إلا للدفاع عنا". قدمت القوات الأردنية لهم الماء، وأبقتهم لفترة في ضيافتها إلى أن ارتاحوا، وبعد ذلك قاموا معهم ببعض الإجراءات الرسمية البسيطة ثم توجهوا بهم إلى مخيّم "البشابشة" في مدينة الرمثا الحدودية شمال الأردن، وهو الأمر الذي يحدث كل ليلة بعد وصول النازحين إلى حدود الأردن، كما أكد ذلك معظمهم. التشرّد يسير على قدمين أن تكون مشرداً معناه أن تعيش بلا وطن، وبلا هوية، أن تترك روحك تنسكب على الأرض مثل ماء آسن.. دخلت المجموعة إلى المخيم وهم يظنون أنهم وجدوا أرواحهم، لكن النظرة الأولى للمخيم أشعرتهم بأنهم خرجوا من سجن ليدخلوا سجناً آخر، فالمخيم كان عبارة عن خمس بنيات قديمة من طابقين، جزء منها خصص للنساء، ويحوي مهاجع متسخة، ودورات مياه أشد اتساخاً، ازدحم فيه الناس بطريقة مؤذية، حتى أن البعض منهم لم يكن يستطيع قضاء حاجته، والكثير منهم كانوا يهنئون بعضهم بعضاً إذا وجد أحدهم مواطنا أردنيا يتبرّع بكفالته، وهذا شرط مهم جداً لخروج النازح من المخيم، كما يصف ذلك أحد النازحين، فلا يمكن لأحدهم أن يخرج من المخيم حتى تتم كفالته من أي مواطن أردني. على حافة الموت أثناء وقوفنا أمام مخيم "البشابشة" نتأمل الأطفال الحفاة يتراكضون، تنامى في داخلنا ذلك الشعور بالتوغل للبحث عن المعلومة أكثر، فركبنا السيارة واتجهنا شمالا نحو الحدود السورية، سرنا بسيارتنا بين تلك المروج التي تمتد أمام ناظريك كلوحة تشكيلية، أخذنا نتأمل الخضرة أمامنا مع غروب الشمس ونتحدث عما رأيناه من المآسي في رحلتنا هذه، فتوقفنا ننتظر أسراب النازحين، لنكون أول من يلتقيهم، فليس هناك أجمل من رؤية الناس وهم يعودون للحياة مرة أخرى. وفجأة سمعنا صوت بوق سيارة يأتي من بعيد، لقد كانت سيارة عسكرية تنطلق إلينا بسرعة فائقة، يظهر على سقفها رشاشا من عيار 50م، وما إن اقتربت منا حتى عرفنا بأنها سيارة تابعة للجيش الأردني، وقفت أمامنا، فترجل منها ضابط يحمل بين يديه بندقية، حيّانا بلطف وسألنا عن سبب وجودنا هنا، فأخبرناه بأننا صحافيان جئنا لتغطية أخبار النازحين السوريين، فقال لنا متعجبا "ألا تعلمون بأنكم الآن في الأراضي السورية؟ وأنكم في أي لحظة يمكن أن تكونوا في عداد الأموات". كانت عبارة الضابط، رغم تحفظه، تعطي دلالة واضحة بأن الموت بالمجان على الحدود السورية التي تحولت إلى سجن كبير. أمرنا الضابط بالتحرك فورا، فعدنا أدراجنا باتجاه مدينة الرمثاء، وهو يسير خلفنا حتى قطعنا مسافة ليست بالبعيدة، فأمرنا بالتوقف، وترجل من سيارته مرة أخرى، وقام بإلقاء نظرة على سيارتنا، وطلب منا أن يلقي نظرة على الكاميرا التي نحملها، أخذ يتأمل الصور، وبين لحظة وأخرى يقوم بمسح صورة ما لدواع أمنية كما يقول، عند ذلك طلبنا مرافقته لاستقبال النازحين، فرفض بلطف، وأثناء محاولتنا إقناعه وردنا اتصال من الصحيفة يسألون فيه عن موقعنا، وعن آخر أخبارنا، فأخبرناهم بما حصل معنا، وأننا كنا قبل لحظات نقف على حافة الموت، فوجهونا بالتراجع فورا، وعدم تعريض أنفسنا للخطر، وعدنا أدراجنا والشمس تغطس في كأس المغيب إعلانا بابتداء ليلٍ جديد سيكون فيه مجموعة من النازحين في طريقهم إلى الحياة، هربا من جبروت بشار الأسد وشبيحته.
غدا • نازحون يوثقون وحشية نظام الأسد بأعضائهم الممزقة.