تعكس قضية الواسطة أزمة في تكوين العقل العربي الذي يعيش النقيضين في آن واحد، فهو يشجب ويؤيد، ويحارب ويعزز.. فالمعلن عندنا أن الواسطة هي سبب بيّنٌ في هضم الحقوق ومدعاة للظلم، ولهذا فنحن لا نفتأ نسبها من على منابر المساجد وقاعات الدرس العلمي، وكذلك في الشارع نحملها إثم عدم تساوي الفرص، ولكننا نفشل لحظة التطبيق, لأن المواجهة تكون مع واقعٍ يدعمه موروث شعبي يحمل في ذاكرته تعزيزا عنيفا لمبدأ الواسطة، ونجد بين دفات ملفاته قصائد مديح من الطراز الأول وأمثالاً مأثورة لا يكاد يخلو منها حديثنا اليومي، كلها تشكل "واسطة" لبقاء الواسطة. "فلان ما فيه خير".. "دواء جمعة", و"ما تعرفه إلا زوجته", و"اللي ما ينفع صاحبه ما فيه خير للبعيد" وغيرها كثير من الجمل التي يحفل بها قاموسنا الشعبي وكلها تتحدث عن نفع من يأخذ اللقمة من فم الأسد، أو بالأصح من يأخذ حق المستحق فيمنحه لغيره ممن لا يملك قوة "رحم أو صداقة أو مصلحة". ولكي يتأكد الإنسان من تلك الحقيقة القاسية فعليه أن يحدق جيدا في كثير ممن يتصدرون المجالس أو تقف الناس لهم احتراما، وسيجد أنهم من منتجي "الواسطة" أو فيتامين "و" كما يسميها البعض. هذا الداء استشرى في المجتمع حتى صعب استئصاله فكلنا نرفضها على مستوى القول ونتحدث عن سلبياتها، ولكن سرعان ما نمتطي جواد الأعذار والمبررات حينما نحتاجها. غياب رقابة يقول المواطن ثامر غريب إن المسؤولية في هذا الموضوع لا تقع على شخص واحد فقط إنما على مجموعة أشخاص بدءا من الشخص الذي يبحث عنها ومروراً بالمسؤول الذي يقبلها دون أن يستشعر حجم المسؤولية أو أن يراعي الأمانة الملقاة على عاتقه حينما يرتكب نوعا من الفساد الإداري، مسيئا بذلك استخدام السلطة باستغلال منصبه ووضعه الوظيفي لأغراض شخصية، ولم يرقب إلاً ولا ذمة في ذلك, ثم الغياب الرقابي والمتابعة. الواسطة وملف المتفوقة ويتحدث محمد مقبل عن الواسطة فيقول حينما أتيحت الفرصة للتقديم على وظائف في إحدى القطاعات والتي تعتمد مفاضلتها على المؤهل، فوجئت إحدى المتقدمات والتي كانت حاصلة على تقدير امتياز مع مرتبة الشرف بأنها لم تجد اسمها بين المقبولين، وقبول من هي أقل منها تقديراً , ورغم ما تقدمت به من شكاوى ومطالبات لم يتغير شيء بحجة عدم استلام الملف! أخوه أولى ويقول سطام السلطان حصل أحدهم على فرصة توظيف في أحد القطاعات ولجأ لأحد أصحاب النفوذ ليساعده في التعيين, فوعده بخير لكن المفاجأة كانت حينما علم بعد أسبوع بأن صاحب الجاه قام بتعيين أخيه على تلك الوظيفة معتذراً بحاجة أخيه وظروفه أمام قلة الفرص الوظيفية. المتوسط في حكم المرتشي ويرى المستشار القانوني خالد بن محمد البلوي بأنه يمكن أن تقسم الواسطة إلى ثلاثة أقسام: الأول: قد تكون الواسطة مشروعة في حالات معينة وهي مساعدة صاحب حاجة للحصول على حق مشروع ومكفول له. الثاني: واسطة غير مشروعة في حال التعدي على حق من حقوق الآخرين وغالباً ما يكون فيها هضم لحقوق الغير وإيقاع الضرر بهم. والثالث وقد تكون هذه الواسطة لتبادل المنافع بين أصحاب المصالح للحصول على منفعة وهي غير مشروعة أيضاً لأنه في الغالب ما تكون الوسيلة فيها هي تجاوز النظام ولا شك في أن القسمين الثاني والثالث من أقسام الواسطة تعتبر من الناحية القانونية من صور الرشوة ويتضح من خلال ما نصت عليه المادة الرابعة من نظام مكافحة الرشوة الصادر بالمرسوم الملكي "بأن كل موظف أخل بواجباته الوظيفية بأن قام بعمل أو امتنع عن عمل من أعمال تلك الوظيفة نتيجة لرجاء أو توصية أو وساطة يعد في حكم المرتشي ويعاقب بالسجن مدة لا تتجاوز ثلاث سنوات وبغرامة مالية لا تزيد عن مئة ألف ريال أو بإحدى هاتين العقوبتين". حرام شرعا وبعضها حلال ويقول رئيس قسم الدراسات القرآنية بجامعة الحدود الشمالية الدكتور علي بن جريد العنزي: إنه إذا ترتب على توسط من شفع لك في الوظيفة حرمان من هو أولى وأحق بالتعيين فيها من جهة الكفاية العلمية التي تتعلق بها، والقدرة على تحمل أعبائها والنهوض بأعمالها مع الدقة في ذلك- فالشفاعة محرمة, لأنها ظلم لمن هو أحق بها، وظلم لأولي الأمر بسبب حرمانهم من عمل الأكفاء وخدمتهم لهم، ومعونتهم إياهم على النهوض بمرفق من مرافق الحياة، واعتداء على الأمة بحرمانها ممن ينجز أعمالها، ويقوم بشؤونها في هذا الجانب على خير حال، ثم هي مع ذلك تولد الضغائن وظنون السوء، ومفسدة للمجتمع. أما إذا لم يترتب على الواسطة ضياع حق لأحد أو نقصانه فهي جائزة، بل مرغوب فيها شرعا، ويؤجر عليها الشفيع إن شاء الله. تحدها ثقافة المجتمع ويرى الباحث الاجتماعي الرمضي قاعد العنزي أن الواسطة ظاهرة لا يخلو منها أي مجتمع ولكن انتشارها يختلف حسب ثقافة المجتمع وحسب مدلولاتها في المجتمع ويري أنها من أخطر أنواع الفساد الإداري على الإطلاق ولها مظاهرها السلبية على المجتمع كونها تزيد من تخلف كل مجتمع لا يعتمد على الكفاءة وكذلك تؤثر سلبيا على الأشخاص المؤهلين. ويقول رئيس لجنة التوظيف بجامعة الحدود الشمالية وعميد كلية العلوم الدكتور فرج الغامدي: إن الواسطة مكنت النفوس الحاقدة من أن تمارس هيمنتها وتهضم حقوق الآخرين، وكبتت القدرات والكفاءات في ظل موت الضمائر وطغيان حب المصلحة، مولدة بذلك البطالة لحملة الشهادات والكفاءات، وحيدت التعليم والخبرات وجعلت منها الحكم في التعيين والتوظيف وأصبحت سيدة الموقف. وأن صاحب الحاجة غير المشروعة، يتمتع بأنانية غير عادية يرغب من خلالها في تنفيذ عملية غير قانونية تخدم مصلحته فقط، اعتماداً على موقعه الاجتماعي قفزاً على النظام المتبع في إنجاز هذه المهمة. ويجب لزاماً على من تولى أمراً من أمور المسلمين، أن يكون أميناً في أدائه لعمله، فوظيفته ليست ملكاً له يتصرف بها كما يريد، بل هي تكليف يلزمه التفاني في أداء متطلباتها، ومن هنا وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا ذر الغفاري رضي الله عنه، بقوله "يا أبا ذر إنها أمانة، وإنها حسرة وندامة إلا من أخذها بحق الله فيها".