في الوقت الذي لا يستطيع معظمنا أن يستوعب فكرة التخلي عن جواله أو كمبيوتره الشخصي أو أي أداة تقنية من شأنها تيسير الأعمال الحياتية اليومية للإنسان، يقرر البعض من الشباب تحدي ذواتهم، وتجربة الهرب من التقنية إلى البر، في فكرة لاستعادة الماضي، وتجربة حياة السابقين التي شوقوهم لها في أحاديثهم الآباء والأجداد، فيظلون بلا جوالات أو كمبيوترات أو أجهزة تلفاز أو راديو، أو ريموت كنترول وغيرها لفترة، متخذين من البر مقرا لهم وسط خيام وغير متصلين بالعالم الخارجي بأي طريقة تقنية، مثبتين استشعارهم للارتياح بصورة كبيرة بعد هذه التجربة لكن احتياجهم للتقنية ما لبث أن عاد بعد فترة وجيزة من غيابهم عنها. يقول سالم علي عسيري وهو أحد الشباب الذين جربوا هذه الفكرة أن التقنيات تشعر الإنسان بالراحة من جهة تسهيلها لأموره، وسبل تواصله مع الآخرين، لكنها أيضا تشعرنا بالاتكالية التي نحتاج أن نغيرها في كثير من مواقفنا الحياتية، وكشباب فإن فكرة كهذه غير مقتصرة على مجتمع بعينه، وإنما يجربها الكثيرون من شباب الخليج، بدليل أن الشباب العمانيين يلجؤون لجبل في عمان في فترات معينة من السنة، أو حين رغبتهم في الابتعاد عن صخب المدينة، وهذا الجبل يتسم بكل صفات الماضي من وجود منازل قديمة جدا، ورعاة الغنم، والحيوانات، والاعتماد على الطرق القديمة لإعداد الطعام والطهي وغيرها، وهناك أصدقاء عمانيون يصطحبوننا إلى هناك أثناء الرحلات السياحية، شريطة أن ننسى الجوال والإنترنت إذ لا شبكة تغطية هناك" وعن شعوره جراء هذه التجربة يقول "نعم ارتحنا كثيرا، حيث مكثنا فترة أسبوع كامل دون تواصل أو تعامل تقني، فيما اضطررنا في نهاية الأسبوع لاستخدام الجوالات لإشعار أهالينا بمكاننا وطمأنتهم علينا، والتحدي كان أن نمكث فترة أسبوعين لكني أراها مستحيلة". ويقول الشاب حسين الشهراني إنه تحدى بعض أصدقائه في أن يمكث فترة شهر في البر دون تقنية، إلا أنه لم يستطع إكمال ثلاثة أيام، حيث اضطر لاستخدام جهازه الجوال الذي أغلقه، بعد أن لدغ أحد أصدقائه عقرب، فاضطر لدعوة الإسعاف بالجوال لإنقاذه". ويضيف "أرى أن الابتعاد عن التقنية في الوقت الحالي بعد أن اعتاد الناس عليها فكرة مستحيلة، وخاصة الأشياء التي لها علاقة بالضرورة التواصلية كالجوال أو الضرورة العملية كاللابتوب والإنترنت وغيرها، أما المكملات الحياتية اليومية كريموت كنترول السيارة، أو التلفاز، أو أجهزة التسلية وغيرها، فبإمكان الفرد بلا شك الهرب منها لفترة ثم العودة إليها". واختلف الشاب سهل الزهراني مع من سبق بقوله إن "التقنيات هي روح الحياة العصرية، لكن لها من التأثيرات السلبية ما تجعلنا متوترين طول اليوم، بسبب الشحنات الكهربائية التي تدخل أجسادنا من خلالها دون أن نشعر". وأشار إلى أن فكرة التخلي عن التقنية لفترة قد تكون وصفة علاجية ناجعة لمن يعاني من فقدان أعصابه أو تركيزه، أو شعوره بالتوتر والقلق، وقد تكون أيضا وسيلة تسلية لتجربة الماضي، والعيش ضمن أحداثه بصورة واقعية، حيث يعود الأشخاص للفانوس بدلا عن الكهرباء، وللجمر بدلا عن الموقد، وللرمال بدلا عن الرخام والسيراميك، وللنوم على الأرض بدلا عن السرائر، وغير ذلك من البدائل التي ليس من السهولة أبدا سرعة التكيف معها، خاصة لمن اعتاد على غيرها". وأكد الزهراني أن "في ذلك حكمة استشعار النعمة الحالية التي نعيشها بتجربتنا لقسوة ما كان يعيشه من هم قبلنا، ومع هذا كانوا أكثر راحة في البال وهدوءا في الأعصاب واتزانا في التصرفات". وعن هذه الفكرة يرى الأخصائي الاجتماعي بقسم الخدمة الاجتماعية بمستشفى عسير المركزي مساعد المفرح أنها "فكرة جيدة كون الإنسان هو من أوجد هذه التقنيات بعد فضل الله وتيسيره، وهو أولى بأن يأخذ فترة استرخاء بالبعد عنها، وتصفية الذهن من ضغوط الحياة العملية"، ملفتا إلى أن الإنسان مجموعة من الأحاسيس والمشاعر، ويتأثر بما يدور حوله ويتعاطف مع خبر اقتصادي أو رياضي مهم، وكل ذلك يؤثر على الجهاز العصبي والذهني للإنسان. وأضاف المفرح أن أخذ فترة استرخاء وتصفية الذهن بالبعد عن التقنيات وكل ما هو مؤثر ذهنيا يعتبر أمرا صحيا يساهم في تنشيط الذاكرة والأجهزة الحيوية للجسم، بل يعود عليه بالنفع من منطلق "ولبدنك عليك حقا"، بالإضافة إلى كونه كسرا للروتين، وفرصة جيدة لشحذ الهمم، واستجماع القوى من جديد. وعن قول البعض بأن هذه الفكرة مستحيلة التنفيذ لفت المفرح إلى أن "كون الإنسان ابن المجتمع، وجزءا منه، فيعتبر البعض ذلك مستحيلا، لكن بإمكان الشخص التنسيق مثلا لإجازته، وإخبار أحد أقربائه أو أصدقائه بمكان تواجده للاتصال في حالة الضرورة، ولا يوجد ما هو مستحيل، إذ منح الله الإنسان العقل وميزه به عن سائر المخلوقات.