من بوابة الشعر هذه المرة، عادت محاولات الاقتراب من الآخر مجددا وعلت أطروحاتها بكثافة، من خلال نخبة ضمت شعراء وأكاديميين وباحثين وإعلاميين، عربا وغربيين جمعتهم مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين، مطلع هذا الأسبوع في دبي تحت اسم عريض حمل عنوان "ملتقى الشعر من أجل التعايش السلمي"، في لحظة وصفها الدكتور محمد مصطفى أبو شوارب بأنها "فاصلة في تاريخ الإنسانية، حيث يتراءى في مخيلة المؤمنين بالكلمة تساؤل حالم: هل يستطيع الشعر أن يكون الخيار الرابح في سبيل تفاهم مشترك وتعايش سلمي بين جميع شعوب الأرض ومختلف ثقافاتهم وأعراقهم ودياناتهم؟". السؤال الحالم تداوله الباحثون على مدى ثلاثة أيام، وبدا واضحا أنهم عقب الختام مساء أول من أمس، يدورون في حلقة نخبوية، من حوار عربي غربي من نوع خاص يعمل على محاور متعددة تسعى إلى اكتشاف تناغمات المختلف والمؤتلف على حد سواء في سبيل تأسيس قاعدة حقيقية وراسخة للتعايش الإنساني المنشود، الذي رأى بعض الحاضرين في الملتقى أنه لن يتحقق طالما ظلت هذه المحاولات مقصورة على دائرة النخب، وهو ما عبر عنه صراحة ل " الوطن" رئيس القسم الثقافي بصحيفة العالم المغربية الزميل الشاعر محمد بشكار حين أكد على أن الإنسان البسيط في العالم معني بالخبز والعيش، وقد يكون غير معني بهكذا حوارات ترتفع فيها الشعارات أكثر مما يحتاجه الواقع. ويجيء كلام بشكار مضادا تماما للبريطاني الدكتور جيم وات الذي ذهب إلى أن للشعر في أرديته المختلفة قدرة على أن يمس الآخر بقدر ما يمس الذات، بما هو فعالية إنسانية في المقام الأول تتخلص في كثير من الأحيان من محددات الجنس والعصر والبيئة والموروث وغيرها من ركائز التمييز ليبقى جوهر الإنسان وحسب. وبين وات في ورقته " حضور الشرق في الشعر الإنجليزي " كيف يمكن لعدد من الكتاب الرومانسيين البريطانيين كالسير وليام جونز وروبرت ساوثي ولورد بايرون ولي هانت التلاقي مع الآخر المشرقي في أعمالهم. أما الدكتور جان كلود فيلان من فرنسا فقدم ورقة بعنوان "العرب والمشرق في الشعر الفرنسي" كشف فيها عن أن تأثير الشرق والثقافة العربية يندرج في الشعر الفرنسي في سياقات تبادلات متنوعة تعود بداياتها الأولى إلى قرون عدة. وقال إن الشعر العربي لم يدخل إلا بصورة نسبية جدا في الشعر الفرنسي سواء بسبب الترجمات غير الكافية التي أهملت جزءا كاملا من التراث، أو بسبب قصور في الانفتاح والفضول اللذين لا يزالان يبقيان الشعر العربي على درجات سلم الثقافة المنفتحة على الكون التي من عادة فرنسا الافتخار بها على حد قوله. الدكتور خوان بدرو سالا من جامعة قرطبة الإسبانية قدم دراسة موجزة لنماذج مختلفة من استخدام عناصر شرقية من قبل شعراء اللغة الإسبانية بعنوان "حضور الشرق في الشعر الإسباني. وتوقف عند أثر الشرق في ما سماه الشعر الروائي الإسباني النابع من الآداب العربية والشرقية كالفارسية والتركية والهندية، الذي انتقل إلى الآداب الأوروبية عن طريق إسبانيا، واستشهد بحكاية "حصان الأبنوس" من ألف ليلة وليلة في أعمال دي ثيربانتيس. الباحثة الروسية الدكتورة ناتاليا كيلمانيا أشارت إلى أن صراع الثقافات في العالم يحدث على الدوام فالثقافات تتطور من خلال هذه العملية بالاستعارة من الثقافات الأخرى، لكنها شددت على أنه مع ذلك فإن كل ثقافة يجب ألا تفقد شخصيتها وملامحها المميزة. وفي المقابل تطرق باحثون عرب خلال الملتقى لبعد تاريخي في تناول مسألة العلاقة مع الآخر. فالدكتور أحمد فوزي الهيب اختار " الشعر في ظلال الحروب الصليبية" عنوانا لورقته قائلا فيها "لعل الحروب الصليبية، كما سماها الغرب، أو حروب الفرنجة، كما سماها أجدادنا في تواريخهم، من أوضح صور العدوان والوحشية في تاريخ البشرية، والتي لا يشابهها إلا ما قام به الغرب في العصر الحديث من عدوان علينا، أدى إلى احتلالنا وتقسيمنا إلى دويلات متخاصمة، وإلى سلب فلسطين ليقيم اليهود عليها بمساعدته كيانًا صهيونيًا. وكأن التاريخ يعيد نفسه، ولكن كثيرًا منا، ومع الأسف، لا يريد أن يصحو أبدًا لسبب أو لآخر، وجعل بينه والصحوة أمدًا بعيدًا. والشعر الذي قيل في حروب الفرنج غزير جدًّا، نعتقد أن من الواجب ومن المفيد أيضًا، أن يُجمَع رغم كثرته من بطون المصادر المتنوعة بصورة علمية موثقة دقيقة، وأن يُرتَّب ترتيبًا تاريخيًّا أو حسب قائليه أو قوافيه، وذلك لأنه وثيقة تاريخية مهمة، لا يمكن للمؤرخ الاستغناء عنها، إذ تؤكد ما جاء في كتب التاريخ وتوضحه وتكمله، وكذلك حتى يتمكن مؤرخو الأدب من دراسته دراسة فنية كما فعلوا في شعر العصر الجاهلي والإسلامي والعباسي، فالشعر ليس مُصوِّرة مفتوحة في سوق تجاري ترصد كل حركة، وإنّما الشعر مصَوِّرةُ اللقطات الفذّة، فاستجلاء الصورة الكاملة هو أمر قد يصعب حتى على الدراسات الاجتماعية الوصفية، ولذلك قد لا نجد في الشعر ما يبين لنا حياة الآخر المسيحي الاجتماعية، كطرائقهم في الزواج والاحتفالات، أو في أعيادهم، ومعاملاتهم مع غيرهم من المسلمين، ونحن من خلال قراءاتنا لكتب: التاريخ، والأدب، والجغرافيا، والمعاجم المختصة بالأندلس وصقلية، نجد أنَّ هناك تعاملاً واختلاطاً في السكن والأعمال أحياناً، ويؤكد على ذلك مجموعة من المؤرخين. وتناول الدكتور فخري صالح " الاغتراب والانتماء في شعر المهاجر الأميركي" ذاهبا إلى إن حركة الشعر والأدب المهجريين ما هي إلا ثمرة واحدة من النزوحات السورية اللبنانية الكبرى باتجاه العالم الجديد الأميركي الشمالي والجنوبي، التي أنتجت التيارين الممثلين في الرابطة القلمية والعصبة الأندلسية اللذين أثَّرا تأثيرًا واضحًا في تطوير القصيدة العربية الحديثة وحملا إلى الشعر العربي في القرن العشرين تأثيرات الرومانطيقية الإنجليزية والأميركية. وعلى الرغم من ذلك فإن شعراء هذين التيارين ظلُّوا على تواصل مع مسقط رأسهم بالفكر والرؤية الثقافية والشعرية رغم انفصالهم عنه بالجسد. أما الشعراء فهم - حسب المتوقع - أكثر عددًا، وربما أطول نفسًا، وأوسع مدى في ذكر أسماء المدن العربية وغير العربية، ومن أهم الشعراء: علي السبتي، وأحمد العدواني، وخليفة الوقيان، ومحمد الفايز، وعبدالله سنان، وأحمد السقاف. ورأى الدكتور يوسف نوفل عبر ورقته "رؤية الآخر في مرآة الشخصيات والنماذج الإنسانية العالمية في الشعر العربي الحديث" أن تحديد المفهوم المعاصر «للآخر» تجاه «الأنا» في جدلية العلاقة بين طرفين تتنوع مصالح أفراد كل منهما، تتكامل وتتناغم، أو تتضارب وتتناقض، بما يعني التفاعل الخلاق، أو التنافر الحاد.حوار عربي غربي، رطبت أجواءه أغنيات اللبنانية غادة شبير، حين صدحت بالفصحى مصحوبة بموسيقى راقية انسابت مع قصائد عدد من الشعراء منهم السعوديون عبدالله العثيمين وجاسم الصحيح ومحمد إبراهيم يعقوب. فيما استمرت شخصية الرئيس السوداني السابق عبدالرحمن سوار الذهب استثناء في المشهد وهو يتابع كل الجلسات والأمسيات الشعرية بصمت مهيب وعميق في الوقت ذاته.