لا يعني نهر السين بالنسبة للباريسيين على وجه الخصوص مجرد شريان حياة أو أحد روافد فرنسا السياحية والاقتصادية، بل يتعدى هذا بكثير، فهو شاهد على الكثير من التغيرات المجتمعية والثقافية في حياة الفرنسيين. ومن هذا المنطلق وبمناسبة العام العاشر لتحويل ضفة نهر السين إلى شاطيء بحري خلال شهري العطلة تضع بلدية باريس كميات هائلة من الرمال على ضفاف النهر وإضافة إلى تزيينه بالمظلات والألعاب الترفيهية ليغدو شاطئاً يقصده كل من لم يتمكن من مغادرة باريس خلال العطلة الصيفية، وأيضاً من أجل السائح الذي ترغب باريس في إيجاد ما يربطه بهذا النهر، وتحتضن بلدية باريس الآن معرضاً استثنائياً للصور النادرة جميعها تتمحور حول العلاقة بين مدينة باريس وضفاف نهر السين منذ بدايات القرن الثامن عشر وحتى اليوم، ويستمر معرض "السين" في قاعة البلدية الكبرى على مدى شهرين حتى الثاني من سبتمبر المقبل حاملاً عنوان "باريس على نهر السين". ويبرز المعرض من خلال صور تعرض للمرة الأولى على الجمهور أن نهر السين لم يكن كما نراه اليوم بل كان في القرن الثامن عشر أسلوب حياة، حيث كانت السلع تصل عبر هذا النهر وتباع بسعر التجزئة من خلال القوارب المنتشرة بطول ضفاف النهر، كما كان مكاناً لناقلات المياه والعديد من الحرف والأكشاك المنتشرة حوله في كل جانب، كان للنهر سمة تجارية واقتصادية وليست سياحية كما هي الآن. ومما يثير الدهشة أنه في ذلك القرن أيضاً انتشرت على ضفاف النهر ما يقرب من ثمانين قارباً كل منها يعد مغسلة متخصصة في تنظيف وغسل ملابس الباريسيين، فقد كان ممنوعاً تماماً غسل الملابس في النهر خارج تلك القوارب، و ظل هذا النشاط في باريس حتى نهايات القرن التاسع عشر، وينفرد المعرض بعرض صور تلك القوارب وكيفية استخدامها في تلك الحقبة من الزمن. وهناك العديد من الصور النادرة التي ترصد التغيرات التي طرأت على الواقع الباريسي من خلال السين، فمنذ العام 1750 بدأ اعتماد باريس على الشرب من النهر، حيث كانت نصف كمية المياه التي يستهلكها سكان باريس منه. وفي منتصف القرن الثامن عشر ومع تزايد النشاط الاقتصادي لم يعد هناك أي توافق بين جمالية المدينة وتلك الأنشطة الاقتصادية، ما أدى إلى طرد قوارب الغسيل وإزالة غالبية الأكشاك التجارية من على ضفاف النهر. ومع بدايات القرن التاسع عشر بدأ تصميم شبكة من القنوات المائية ما جعل التجارة تتجه إلى شمال باريس، وبدأت ضفاف النهر تتطور إلى مراكز جذب للرياضة والترفيه، كما يبقى السين شاهداً على مدى قرون على انطلاق أهم الاحتفالات الوطنية والثقافية والملكية أيضاً من على ضفافه. ومن أهم ما يبرزه المعرض أيضاً تدفق الصحوة التكنولوجية، فمنذ العام 1970 بدأ الباريسيون يبتعدون تماماً عن نهر السين الذي كانوا يتمتعون فيه بالهدوء والسكينة ليتجهوا أكثر فأكثر إلى التكنولوجيا والتلفزة والفضائيات وما شابه، وصارت ثقافتهم ترتبط بالاختراعات والتقدم التكنولوجي أكثر فأكثر. وربما يكون هذا هو السبب في المحاولات الدائمة لبلدية باريس في السنوات العشر الأخيرة لإحياء الذاكرة الثقافية لنهر السين، حيث إن أغلب التظاهرات الثقافية لا بد وأن تنطلق من أو بالقرب من النهر.