يُعتبر الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي ببعديه السياسي والأمني الشغل الشاغل للإدارة الأميركية في الشرق الأوسط، وقد استقطب الجزء المتعلق بهذه القضية في خطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما في 19 مايو الماضي اهتماماً كبيراً يفوق بدرجة كبيرة ما احتواه الخطاب بخصوص مبادرات التجارة والاستثمار والتنمية لتعزيز النمو والفرص في جميع أنحاء الشرق الأوسط. لكن الواقع هو أنه دون وجود برنامج اقتصادي قوي ومتكامل وموثوق به، سوف تُثبت جهود ترويج أجندة واشنطن السياسية والأمنية في المنطقة بأنها مُحبِطة وغير ناجحة في النهاية. وعلى الرغم من أن البعض يعتقدون أن هناك إجابات سهلة وجاهزة في هذا المجال، إلا أن التقدم لا يمكن أن يكون ممكناً إلا من خلال توافر قيادة رئاسية قوية ومستدامة ومشاركة نشطة من قبل أعضاء الحزبين الديموقراطي والجمهوري في الكونجرس الأميركي. وقد نشر "معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى" في يونيو المنصرم دراسة للسفير شون دونلي حول البرنامج الاقتصادي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ناقش فيه أهمية العامل الاقتصادي في ما تشهده منطقة الشرق الأوسط من تطورات هامة وحاسمة، خاصة مع انتشار ما يسمى ب"الربيع العربي" في أماكن شاسعة من دول المنطقة. أهمية الاقتصاد في حل مشاكل المنطقة تصدَّرت الهموم الاقتصادية أهم الشعارات والمطالب التي عبَّر عنها المتظاهرون في شوارع تونس ومصر وسورية واليمن وليبيا وأماكن أخرى في المنطقة، والتي كشفت عن مظالم اقتصادية كثيرة ترافقت مع مظالم سياسية ضد حكوماتهم لم تقِل عنها أهمية. فالبطالة والركود والفساد والمحسوبية، والبنية التحتية المتدهورة، والأنظمة التعليمية التي فقدت مصداقيتها، والافتقار العام إلى الشفافية، والمساءلة والتنافسية، جميعها متفشية في الشرق الأوسط. ومن غير المرجَّح أن ينجح ترسيخ الإصلاح السياسي والديموقراطية الحقيقية ما لم تتم معالجة تلك المشاكل وإنجاز إصلاحات اقتصادية كبيرة. وحيث إن الولاياتالمتحدة وأوروبا تواجهان تحديات ومشاكل اقتصادية داخلية هائلة، لم يحن الوقت بعد إلى إطلاق ما يشبه خطة مارشال في الشرق الأوسط. ومع ذلك فإن واشنطن وحلفاءها من الدول الثماني أشاروا أثناء قمتهم في 26-27 مايو الفائت إلى أن تونس ومصر ودولا أخرى تحتاج إلى مساعدات اقتصادية وشراكة حقيقية لوضعها على المسار الصحيح نحو ديموقراطية عصرية حقيقية. أدوات اقتصادية بارزة يقول تقرير معهد واشنطن إنه حتى مع غياب نماذج ضخ جديدة وضخمة من المساعدات، إلا أن لدى الحكومة الأميركية أدوات وخبرة كبيرة موضوعة تحت تصرفها. فثمة وكالات مثل: وزارة التجارة وبنك التصدير والاستيراد، ومؤسسة الاستثمار الخاص عبر البحار، ووكالة التجارة والتنمية، والوكالة الأميركية للتنمية الدولية، وجميع هذه الهيئات والجهات لديها خبرات واسعة في المنطقة ويمكن أن تبدأ في إحداث فرق على الأرض بسرعة نسبية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن "مبادرة الشراكة مع الشرق الأوسط" التابعة لوزارة الخارجية الأميركية وبرامج "اتفاق واشنطن للتجارة الحرة" و "معاهدة الاستثمار الثنائية" قد أثبتت جدواها بالفعل. ومن ناحية ثانية، يُمكن للمنظمات الأميركية غير الحكومية، التي يستفيد بعضها من التمويل الحكومي، أن تلعب أيضاً أدواراً مهمة في مبادرة اقتصادية واسعة للشرق الأوسط. كما أن "الصندوق الوطني للديموقراطية" والعديد من شركائه -مثل "المعهد الديموقراطي الوطني" و"المعهد الجمهوري الدولي" و"مركز المشروعات الدولية الخاصة" و "مركز التضامن" - يمكن أن تكون مفيدة مثلما قد تكون غرف التجارة الأميركية المحلية - من بين منظمات أخرى- في جميع أنحاء المنطقة. ماذا تستطيع الإدارة الأميركية أن تفعل؟ يقول كاتب الدراسة السفير شون كونلي إن بإمكان خطة مفصلة لتحقيق الأهداف التي أعلنها الرئيس الأميركي باراك أوباما في 19 مايو أن تشمل العديد من الخطوات التي يتطلب الكثير منها تمويلاً ضئيلاً نسبياً. ومن بين أهم هذه الخطوات: • تعزيز التجارة وجعلها حرة: إن إحدى أهم الخطوات الملموسة التي يمكن لواشنطن اتخاذها من الناحيتين الموضوعية والرمزية، هي التفكير والنظر بجدية إلى مفاوضات "اتفاقية التجارة الحُرة" الثنائية مع الشركاء الإقليميين الرئيسيين. كما أن "اتفاقيات التجارة الحرة" الشاملة عالية المقاييس -مثل تلك التي تم تنفيذها بالفعل مع الأردن والمغرب والبحرين وعمان- تعود بالنفع على كل الأطراف. وبوصفها محور المنطقة السياسي والاقتصادي، فإن مصر مرشحة قوية ومناسبة ل "اتفاقية التجارة الحرة". ولسوء الحظ فقد ذبُلت الأجندة التجارية الثنائية الأميركية في ظل إدارة أوباما ويعود ذلك في المقام الأول لأسباب سياسية محلية. فعلى سبيل المثال، كان البيت الأبيض غير راغب في إرسال "اتفاقيات التجارة الحرة" الثنائية التي تم توقيعها منذ فترة طويلة مع كوريا الجنوبية وكولومبيا وبنما إلى الكونجرس للموافقة عليها. ورغم أن تلك الاتفاقيات الثلاث قد أظهرت مؤخراً بعض علامات التقدم، يرى القليل من المراقبين أن الإدارة الأميركية مستعدة لإطلاق مفاوضات "اتفاقية التجارة الحرة" التي تأخر موعدها كثيراً في الشرق الأوسط. • تشجيع الاستثمار: يحتاج الشرق الأوسط إلى الاستثمارات الخارجية بشكل واسع. حيث أظهرت الأبحاث أن الاستثمار الأميركي الناجح في الخارج مفيد للتنافسية الأميركية والنمو الاقتصادي والعمالة. غير أن برنامج "معاهدة الاستثمار الثنائية" كان قد تعثر لمدة عامين تقريباً بسبب مراجعة سياسية غير حاسمة بين الوكالات. وفيما يتعلق بالسياسة التجارية، يبدو أن البيت الأبيض جامد الحركة بشأن هذه المسألة وغير مستعد للنظر في أية مبادرات لسياسة الاستثمار تعارضها الدوائر السياسية المحلية الرئيسية. وجزئياً كنتيجة لهذا التقاعس، تتخلف الولاياتالمتحدة عن شركائها الأوروبيين والآسيويين من ناحية اتساع وقوة اتفاقياتها لحماية الاستثمار الثنائي في جميع أنحاء المنطقة. • مكافحة الفساد: كانت مشكلة الفساد على رأس قائمة الأولويات التي يضَعها مواطنو الشرق الأوسط باستمرار في شكاواهم ضد حكوماتهم. وقد حققت كل من واشنطن والمنظمات الأميركية غير الحكومية دوراً قيادياً قوياً في جهود الشفافية والمساءلة ومكافحة الفساد في الخارج مستفيدة من "قانون الممارسات الأجنبية الفاسدة" القائم منذ فترة طويلة. وحتى المبالغ الصغيرة من التمويل الأميركي يمكن تقويتها ليكون لها تأثير حقيقي عن طريق شراكات خلاقة مع المنظمات الأميركية والمحلية غير الحكومية ومجموعات رجال الأعمال إلى جانب تأييد قوي لهذه السياسة. • بناء القدرات: بإمكان المنظمات الأميركية الرسمية والخاصة التي تقودها وتنظمها "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" أن تزيد التدريب العملي والدعم المؤسساتي لحكومات الشرق الأوسط في مجالات سياسية رئيسية مثل حقوق الملكية الفكرية، والسياسة التنظيمية، والعقارات والرهن، والشهادات المهنية، والتمويل المصرفي والتجاري. وسوف تتطلب هذه المبادرات موارد متواضعة فقط، كما هو مناسب في وقت تواجه فيه ميزانية الولاياتالمتحدة بعض الصعوبات. • تسليط الضوء على سياسة اقتصادية: نظراً للظروف الحالية في المنطقة، ستواجه الحكومات قريباً ضغطاً سياسياً لتبني سياسات مناهضة لسياسة السوق الحُرة. فعلى سبيل المثال، تثير مقترحات الميزانية الأولية التي قدمتها الحكومة المؤقتة في مصر بعض العلامات المثيرة للقلق، بحيث تعكس تراجعاً نحو سياسات فقدت مصداقيتها تتحكم بها الدولة وهي مثقلة بمعونات حكومية تعود إلى السبعينات والثمانينات من القرن الماضي. ومن خلال العمل مع "صندوق النقد الدولي" و"البنك الدولي" والجهات المانحة الأخرى والقادة الرئيسيين في جميع أنحاء المنطقة، ينبغي على الولاياتالمتحدة أن تدعم الإصلاحيين والإصلاحات الاقتصادية. كما أن المزيج الفعال من الدبلوماسية الهادئة والدعوة العامة للاقتصاد الجيد ينبغي أن يكون مركزياً في أية مبادرة اقتصادية شرق أوسطية يمكن التعويل عليها. يضيف السفير شون دونلي في دراسته أن هناك مبادرات مستهدفة أخرى ينبغي فحصها أيضاً. فعلى سبيل المثال، استناداً إلى الدروس المستفادة من الانتقالات السابقة للسُلطة في شرق أوروبا اقترح الرئيس أوباما مبادرة للتخفيف من عبء الديون عن مصر فضلاً عن "مشاريع تمويل" للمساعدة على ضخ رؤوس الأموال في المشاريع الواعدة للقطاع الخاص. وكما ذكر الرئيس الأميركي، فإن "مؤسسة الاستثمار الخاص عبر البحار" هي في وضع جيد بشكل خاص يؤهلها لكي تلعب دوراً خلاقاً -من خلال مشاريع تمويل وبصورة أوسع من ذلك- في الجهد لتسهيل وتقوية الاستثمار الأميركي الخاص في المنطقة. كما أن التدريب المهني المتعلق بوظائف القطاع الخاص في أيامنا هذه، ومبادرات التكنولوجيا التي تركِّز على الحُرية والوصول إلى الإنترنت يمكن أن تؤتي ثمارها اقتصادياً وسياسياً. الخاتمة تخلق جهود التجارة والاستثمار الأميركية في الخارج وظائف وصادرات وعوائد ضريبية ونمواً اقتصادياً في الداخل. ومع تخلف الولاياتالمتحدة دولياً على هذه الجبهات فقد تقدمت أوروبا وآسيا. وفي مختلف أنحاء الشرق الأوسط غالباً ما يواجه المنافسون الأجانب تعريفات جمركية منخفضة، وحواجز أقل، وحماية أقوى للاستثمار ولبنود تسوية النزاعات مما يستفيد منها نظراؤهم الأميركيون. ومن ثم فإن تسوية هذا الملعب المائل سيكون جيداً للمنطقة وللولايات المتحدة أيضاً. في خطابه في 19 مايو، دعا الرئيس الأميركي بوضوح إلى مبادرة اقتصادية أميركية قوية في منطقة الشرق الأوسط. إن ليبرالية التجارة و"اتفاقيات التجارة الحرة" وتعزيز الاستثمار هي بالتأكيد مواضيع مثيرة للجدل للدوائر السياسية المحلية الرئيسية للإدارة الأميركية. ومع ذلك فبدون وجود قيادة قوية من البيت الأبيض من غير المرجح أن تعطي الوكالات الأميركية الأولوية أو الموارد أو الإبداع التي يتطلبها الموقف في أيامنا هذه. كما أن العديد من العناصر الأكثر أهمية في أية أجندة أميركية اقتصادية فعالة وموثوقة (مثل اتفاقيات التجارة الحرة وتخفيف عبء الديون وتمويل المساعدات) ممكنة الحدوث فقط من خلال دعم الكونجرس الأميركي، بما في ذلك الاعتمادات والتراخيص. وبناء على ذلك، هناك حاجة إلى قيام مناهج حقيقية من قبل الحزبين الديموقراطي والجمهوري في الكونجرس دون الخضوع إلى تسييس حزبي. وإذا نجحت جهود مساعدة الاقتصاديات الإقليمية المنهكة، فستحتاج واشنطن إلى التغلب على العقبات الدولية والمحلية على حد سواء، لأن ذلك لن يساعد شعوب الشرق الأوسط فحسب، بل أيضاً الاقتصاد والشركات الأميركية أيضاً.